بعد أن تواطأَت مع أزلام النظام في تهريب أموالهم..المصارف اللبنانية تُضيّق الخناق على السوريين


تعرّض القطاع المصرفي اللبناني لضغوط كبيرة من أجل ضبط تعاملاته مع السوريين

أي سوري يرغب في فتح حساب أو إيداع أموال في لبنان يعامل بريبة

البنوك اللبنانية تتمادى أكثر مما تتطلبه العقوبات الدولية



كما هي في كل الحروب والنزاعات، قاعدة تندر فيها الاستثناءات، أن يكون معظم الضحايا من الفقراء أو محدودي الدخل، أو صغار الأثرياء، في حين نجد أن كبار الأثرياء والممتلئين مالياً ينجون بأقل الخسائر، وربما أيضاً يستفيدون من الأزمات ويتاجرون من خلالها، فيزدادون ثراءً.

ويبدو أن القطاع المصرفي اللبناني لا يشذ عن هذه القاعدة إلا ما ندر، فبعد أن هرّب كبار رجال الأعمال والمتنفذين والممتلئين مالياً من السوريين أموالهم عبره إلى جهات مصرفية أخرى، بدأ التضييق فيه يطاول أصحاب الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، من أولئك الذين أرادوا، متأخرين، النجاة بما يملكونه من أموال محدودة إلى خارج البلاد.


ففي سوريا التي تنهار ليرتها، ويطول الدمار عقاراتها، وينهب الركود أسواقها، ويهدد الانفلات أمنها، يسعى كثير من أهلها، خاصة ممن بقيت لديهم بقية بعد الدمار الذي طال البلاد والعباد، للنجاة بما يملكونه، فباع الكثير منهم عقاراتهم بأسعار أقل بكثير من أسعارها الحقيقية قبل الأزمة، وصفّت شريحة واسعة منهم مشاريعها الصغيرة والمتوسطة، ليعملوا على تحويل ما بقي من سيولة بين أيديهم إلى عملة صعبة، وتهريبها خارج البلاد، بحثاً عن ملاذات آمنة لها، كي يضمنوا مستقبل عائلاتهم المالي والمعيشي.


في لبنان، حيث يوجد تداخل مصرفي كبير بين البلدين، خضعت المصارف اللبنانية للعقوبات الأمريكية والأوروبية التي طالت عشرات المؤسسات والشخصيات المحسوبة على النظام بدمشق، خشية أن تخسر تلك المصارف علاقاتها المصرفية الدولية، وأن تتضرر نشاطاتها وارتباطاتها بجهات بنكية غربية.

لا يستطيع اليوم أي شخص سوري على قائمة العقوبات الأمريكية والأوروربية أن يتعامل مع البنوك اللبنانية، لكن للنظام وأزلامه من رجال الأعمال والمتنفذين والفاسدين المرتبطين به، الكثير من الخبرة بتهريب الأموال والتلاعب على العقوبات، فقد انتقلت سيولة مالية ضخمة، حسب معظم التقديرات، عبر البنوك اللبنانية إلى ملاذات مصرفية أخرى، تُرجّح الكثر من التقديرات أن معظمها في روسيا ودبي، وذلك عبر أشخاص أو شركات سورية أو عربية تكون واجهة غير معلنة للشخص السوري المستهدف بالعقوبات، وهكذا مرّت مليارات الدولارات من سوريا عبر لبنان إلى بلدان أخرى.


أمام هذا الانسياب المالي للمحسوبين على النظام السوري عبر النظام المصرفي اللبناني، تعرّض الأخير لضغوط أكبر من جانب جهات مصرفية ومالية غربية، لضبط تعاملاته مع السوريين وتخفيضها إلى أدنى حد، وقد انصاعت البنوك اللبنانية في الأشهر الأخيرة بصورة عالية الالتزام، لهذه الضغوط، فكان الضحية أصحاب الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة من السوريين، بعد أن هرّب كبار أثرياء سوريا ومتنفذيها أموالهم سابقاً.

ففي تقرير لصحيفة الشرق الأوسط نُشر في شباط/فبرايرمن العام المنصرم أشارت الصحيفة إلى أن "القطاع المالي في لبنان بات يحرص على تفادي أي اتهامات جديدة غير مرغوبة بعدما هزته بالفعل اتهامات أميركية في العام الماضي لأحد البنوك اللبنانية بالتورط في شبكة غسل أموال نيابة عن حزب الله اللبناني. وأن أي سوري يرغب في فتح حساب أو إيداع أموال في لبنان يعامل بريبة.".

وبالفعل هذا ما يحدث اليوم، فقد روى سوريون لـ "اقتصاد" أنهم تعرضوا لمعاملة سيئة من جانب عدد من إدارات البنوك اللبنانية حينما حاولوا إيداع أموالٍ فيها، يقول (ناجي، س) لـ "اقتصاد": "حينما دخلت أحد البنوك اللبنانية الشهيرة، والتي لها فرع رئيسي بدمشق، عاملوني بازدراء شديد، وحينما ثُرت لكرامتي، كادوا يجلبون لي الأمن....لقد عاملوني باستحقار وكأنني وباء".

تقرير الشرق الأوسط المشار إليه آنفاً، أورد نقلاً عن دبلوماسي غربي اعتقاده بأن البنوك اللبنانية «تمحو أصول النظام السوري» من دفاترها وربما تتمادى أكثر مما تتطلبه العقوبات الحالية لأنها تشعر بأن المستقبل ربما يشهد حظراً دولياً أوسع نطاقاً.

ما سبق لم يمنع بعض إدارات البنوك اللبنانية من التحايل على العقوبات، واستغلالها في ابتزاز السوريين من محدودي الثروة، لوضع أموالهم وفق شروط مجحفة. يروي (حسام، ق) لـ "اقتصاد" أن أحد اللبنانيين عرّفه على مصرفي كبير في أحد البنوك اللبنانية: "الرجل اشترط أن أودع أموالي باليورو، وأخبرني أنني لن أحصل على أية فوائد، وأنني لا أستطيع السحب منها قبل 3 أشهر".

ويحكي (حسام، ق) لـ "اقتصاد" أنه باع منزله الكائن بالمزة بدمشق، بعد أن استشعر اقتراب المعارك من قلب العاصمة، وأنه خسر قرابة 7 ملايين في صفقة بيع بيته، ووجد صعوبة بالغة في تحويل الحصيلة إلى دولار، ومن ثم عانى الأمرّين في تهريبهم عبر الحدود إلى لبنان، وهناك تلقى عروضاً أقل ما يمكن وصفها بالظالمة، جراء سعيه لإيداع ما يملكه في البنوك اللبنانية، يقول (حسام، ق): "أخبرتني مديرة في أحد البنوك اللبنانية الشهيرة أنني يمكن أن أودع أموالي لديهم، لكن شريطة أن أنساهم على الأقل لسنة، وبعد ذلك ربما أستطيع سحب ألف دولار فقط، وبشيء من المنيّة، ...شعرت أن ذلك ابتزاز، وأنني سأضع أموالي في حساب بنكي شبه مجمّد فعلياً...هم كانوا يعرفون أنني لففت على عدة بنوك وأن معظمها رفض مطلقاً التعامل مع سوريين، في حين قبل البعض الآخر ذلك بشروط مجحفة للغاية".

من جانب آخر، لا يبدو أن النظام وأزلامه يريدون أن يتركوا للسوريين شيئاً دون أن يسطوا عليه بعد كل الدمار الذي طال البلد بفعل حربهم الشعواء ضد الشرائح الثائرة عليهم. فمنذ بضعة أيام نشر موقع موالٍ للنظام مادة صحفية دعا فيها بصورة غير مباشرة إلى تضييق الخناق على السوريين الذين يهرّبون اليوم أموالهم خارج البلاد بطرق غير مشروعة.

يقرّ الموقع المذكور في مادته تلك أنّ العديد من رجال الأعمال سحبوا منذ بداية الأزمة أموالهم من المصارف السورية التي تحتفظ اليوم بمدخرات الطبقات المتوسطة وأصحاب الدخل المحدود. أي أن النظام وأنصاره يعرفون اليوم أن أصحاب الملاءة المالية الكبيرة، وعلى رأسهم رجال الأعمال الكبار، ومنهم أولئك المحسوبون على النظام، ومنهم أيضاً الفاسدون من مسؤولي النظام ومن المقربين من رأس الهرم، قد هربوا بأموالهم، ولم يبقَ في البلاد إلا مدخرات أصحاب الملاءة المالية الصغيرة والمتوسطة، لكنهم على مبدأ "لا بيرحموا ولا بخلوا رحمة الله تنزل" يدعون اليوم إلى ملاحقة مدخرات هؤلاء ومنعهم من تهريبها، حفاظاً على الليرة السورية وحفاظاً على استقرار الاقتصاد، والسؤال: "أين كان هؤلاء حينما كان كبار الأثرياء والفاسدين في البلاد يهرّبون أموالهم، ولماذا لم يلجمهم النظام عبر مؤسساته المالية، لحماية الليرة والاقتصاد."

والسؤال هنا: هل يُلام المواطن البسيط محدود الثروة الذي يريد النجاة بمدخرات عائلته خارج البلاد؟....أم يجب أن تكون "الوطنية" على حساب هؤلاء؟...دون أن تمس "الوطنية" المصطنعة أساطين الفساد من المحسوبين على النظام الذين أصبحوا، في معظمهم، مع أموالهم في دبي اليوم؟
يبدو أن قدر السوري البسيط أن يدفع الثمن، وعلى كل المقالب، بما فيها مقلب العقوبات الغربية على بلده، التي لم تضرّ بصورة فاعلة النظام ومسؤوليه، بقدر ما أضرت المواطن السوري، فساهمت في رفع أسعار السلع، وقفلت المخارج المتاحة للسوريين الراغبين بالنجاة بمدخراتهم المحدودة من جحيم الانهيار المالي – الاقتصادي – الأمني الذي يفتك بالبلاد.

ترك تعليق

التعليق