سوريا وكوريا الجنوبية..كيف تكون سيرة الثانية عِبرة مفيدة للأولى؟ (2-3)

ارتكزت كوريا الجنوبية على حليفها الأمريكي، واستندت إلى دعم المعسكر الغربي.

خلال أربعة عقود، تضاعف الدخل القومي الكوري أكثر من 200 مرة.

الصناعات الثقيلة والكيماوية، العمود الفقري للاقتصاد الكوري بأكثر من 50% من إجمالي الإنتاج الصناعي.

الخط التنموي الذي راهنت عليه كوريا الجنوبية منذ الستينات، حاول الأسد الابن، عبر فريق الدردري الاقتصادي، استنساخه، لكنه فشل فشلاً ذريعاً.

لا يمكن للتجربة أن تُستنسخ في الحالة السورية إذا بقيت معدلات الفساد الاقتصادي والإداري في مستوياتها الراهنة.

قارنا في الحلقة الأولى بين الخلفية التاريخية لشبه الجزيرة الكورية وبين نظيرتها في الحالة السورية، ولو بصورة غير مباشرة. واتضح لنا أن هناك الكثير من نقاط الشبه. وبطبيعة الحال، هناك الكثير من نقاط الاختلاف أيضاً غير المُشتركة في تاريخ المنطقتين.

لكن نقاط الشبه المتمثّلة في ثلاثية "الاحتلال الأجنبي، الحرب الأهلية، الحكم الديكتاتوري العسكري"، يُضاف إليها اندلاع ثورة شعبية في البلدين ضد أنظمة استبدادية تُديرها زمرة عسكرية، كفيلة بأن تسمح لنا بالمراهنة على فوائد دراسة تجربة النهوض الاقتصادي الكوري –الجنوبي-، واستخلاص العِبر والدروس منها، والتي من الممكن إسقاطها على الحالة السورية.

ما بين سوريا وكوريا...بدايات واحدة، ونهايات متباينة

على خلاف الحالة السورية، طوّرت كوريا الجنوبية في بداية ستينات القرن الماضي نموذجاً تنموياً، جمع بين استراتيجية الاقتصاد المركزي المخطّط، وبين استراتيجية اقتصاد السوق.

وفي الوقت الذي انتهج فيه نظام البعث في سوريا منذ مطلع الستينات نظام اقتصادي مركزي شديد التخبّط، وراهن على الاتحاد السوفيتي حينها، ارتكزت كوريا الجنوبية على حليفها الأمريكي، واستندت إلى دعم المعسكر الغربي.

وفي الوقت الذي حقق فيه حكام سوريا "البعث" في الستينات فشلاً ذريعاً على الصعيد الاقتصادي، يُضاهي فشلهم السياسي والعسكري، متمثّلاً بحملة التأميم والإصلاح الزراعي، بنفس آيدلوجي – طبقي، يخلُو من رؤية اقتصادية، هرب معه رأس المال المحلي، وأُغلقت البلد أمام الاستثمار الأجنبي الفاعل، وفرت العقول من جحيم فوضى سياسية –عسكرية –اقتصادية مُريعة، كان حاكم كوريا الجنوبية، العسكري –الديكتاتور، يضع أُسس المعجزة الاقتصادية لكوريا الجنوبية.

من أفقر مجتمعات العالم...إلى أحد الاقتصاديات العشر الكبرى

وبقيت كوريا الجنوبية حتى بداية الستينات واحدةً من أكثر المجتمعات الزراعية فقراً في العالم، حينما انطلقت خطة التنمية الاقتصادية –الصناعية منذ عام 1962، لتصبح كوريا الجنوبية في أقل من أربعة عقود، واحدةً من أكبر عشر اقتصاديات في العالم، تضاعف خلالها الدخل القومي الكوري أكثر من 200 مرة، من 2.3 مليار دولار عام 1962، إلى 477 مليار دولار عام 2002، واستمر في الزيادة حتى وصل إلى 931 مليار دولار عام 2005. وارتفع نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي أكثر من 20 ضعفاً، من 87 دولاراً عام 1962، إلى 1904 دولار أمريكي حالياً.

تهيئة البناء الصناعي لدولة زراعية

ركزت الخطة الخمسية الأولى للتنمية في كوريا الجنوبية، التي بدأت عام 1962، على وضع أسس التصنيع. ونجح حكام كوريا الجنوبية يومها في تنفيذ وعودهم، وقاموا بتهيئة البناء الصناعي لدولة تعتمد على الموارد الزراعية، لتصبح دولة تقوم على التصنيع الحديث والتصدير، على خلاف ما حدث في الحالة السورية في الستينات، التي ذهبت فيها كل وعود النهوض الصناعي، التي أطلقها حكام سوريا "البعثيون" يومها، أدراج الرياح.

وعمل مهندسو نهضة كوريا الجنوبية على زيادة نصيب السلع المصنّعة في البناء الصناعي الكلّي، وخفض نصيب الصناعات الأولية.

وارتكزت نهضة كوريا الصناعية بدايةً على قطاع النسيج، في الوقت الذي كان فيه هذا القطاع العريق في سوريا يلقى تخريباً هائلاً.

من الصناعات الخفيفة إلى الصناعات الثقيلة

ومن ثم انتقل مهندسو النهضة الكورية إلى التركيز على الصناعات الثقيلة والكيماوية، بصورة منتظمة وتدريجية، ليصبح هذا النوع من الصناعات، العمود الفقري للاقتصاد الكوري بأكثر من 50% من إجمالي الإنتاج الصناعي.

وفي عام 1990م، أصبحت كوريا الجنوبية من أهم المنتجين للصلب في العالم. واحتلت كوريا المرتبة السادسة بين أكبر مصنعي السيارات في العالم، حيث تنتج سنوياً أكثر من 3 ملايين سيارة.

وتنتج كوريا كذلك أنواعاً مختلفة من المعدات والآلات. كما دخلت الدولة الآسيوية بثقة قطاع صناعة السفن والسيارات، لتصل إلى أعلى مستوياته. وتزامن ذلك مع تطور مطرّد في نمو الصناعات الالكترونية، لتصبح أهم عامل لتوفير النقد الأجنبي.

ولمجابهة الطلب المتزايد على الوقود، طوّرت كوريا الجنوبية مجمعات بتروكيماوية ضخمة مع تدعيمها بالعديد من مصافي البترول الكبيرة على طول المدن الساحلية للبلاد.

ناهيك عن صناعات إنتاج الأسمنت، والأطعمة، والأسمدة الكيماوية، والخشب الحبيبي، والملابس، والسيراميك، والزجاج، والمعدات الزراعية والمعادن غير الحديدية.

كوريا تنهض من وعكتها المالية

وفي نهاية التسعينات، تعرضت التجربة الكورية الجنوبية، على غرار نظيراتها الآسيوية، لضربة موجعة تمثّلت بالأزمة الاقتصادية الآسيوية، التي أدت إلى انخفاض حاد في إجمالي الدخل القومي، ونصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي، بسبب تذبذب معدلات الصرف الأجنبي.

لكن كوريا الجنوبية وقفت على قدميها من جديد، فغيّرت في طاقمها الحكومي، واتخذت إجراءات صارمة لإصلاح القطاع المالي بهدف كسب ثقة المستثمرين الأجانب من جديد، مؤكدةً التزامها بمبادئ السوق الحرّ. وأعادت هيكلة الشركات الكورية العظمى المعروفة باسم (جيبول)، وزادت من المرونة في سوق العمال.

وبعد عامين فقط من الأزمة الاقتصادية الآسيوية، تجاوزت كوريا الجنوبية وعكتها المالية بالكامل. واعتمدت سيؤول استراتيجية حفظ معدل الديون لتكون بمثابة أساس للاستثمار.

ورغم الطفرة الصناعية الهائلة التي حققتها كوريا الجنوبية خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين فقد تضاعف معدل الإنتاج الزراعي الكلّي في كوريا خلال الخمسة عشر عاماً الماضية.

ما بين المخطّط والسوق...نجاح كوريّ، وفشل سوريّ

لا يوجد أي مفصلٍ من مفاصل النهوض الكوري الجنوبي، لا يمكن استنساخه في سوريا. فالجمع بين تخطيط مركزي استراتيجي، واقتصاد سوق حرّ، استراتيجية روّج لها الكادر الاقتصادي الذي أدار سوريا في العقد الأول من القرن الحالي، في ظل بشار الأسد.

وكان عبد الله الدردري، رأس الحربة في الترويج لهذه الاستراتيجية، لكن الفساد، وتسلط الأمن، وتحكم العائلة والمقرّبين، حوّل هذه الاستراتيجية إلى كارثة على الاقتصاد السوري، إلى جانب أخطاء مفصلية زلّ فيها فريق الدردري الاقتصادي رغم الكثير من التحذيرات، من ذلك الرفع التدريجي للدعم عن المحروقات وبعض المواد الأساسية، ومالت الكفّة لصالح اقتصاد السوق على حساب دعم الطبقات الضعيفة اقتصادياً.

كما وقع فريق الدردري الاقتصادي في خطأ تاريخي، تمثّل في إهمال قطاع الزراعة والتساهل في قطع شرايين حياته، من دعم محروقات، وتمويل حكومي غير مباشر. وتزامن ذلك مع سنوات قحط شديدة، أطاحت بالزراعة في الجزيرة السورية، وبفرص عمل مئات آلاف السوريين هناك.

وربما يرجع إصرار فريق الدردري الاقتصادي على رفع الدعم عن المحروقات وباقي المواد الأساسية، إلى حقيقة عدم وجود موارد كافية لتغطية جوانب العجز في الميزانية العامة، في ظل تراجع دور النفط –الناضب تدريجياً- في اقتصاد سوريا، ناهيك عن غياب حجم استثمار أجنبي مُجدٍ، يؤمّن سيولة مالية كافية لتحقيق النهوض الاقتصادي المأمُول.

وبخصوص العنصر الأخير، غياب الاستثمار الأجنبي المُجدي، فقد لعِب عاملان أساسيان في تحقيقه: السياسة الخارجية التي اصطفت البلد بموجبها إلى جوار المحور الإيراني، مما فرمل الاستثمار الخليجي والغربي الذي كان قد بدأ بالتدفق إلى سوريا في العام 2004 ليصل إلى 10 مليار دولار. 
أما العامل الثاني، فتمثّل في حجم الفساد الكبير والابتزاز الذي كانت الطغمة الحاكمة، العائلية والأمنية، تمارسه على المستثمرين، حتى فاض الكيل بأحدهم، خليجي الجنسية، وفضحهم في أحد مؤتمرات الاستثمار في دمشق، ليؤكد أن أي استثمار في سوريا يتطلب حجما موازيا لرأس المال المُتوقع، كرشاوي ومحسوبيات.

وهكذا يتضح لدينا، أن الخط التنموي الذي راهنت عليه كوريا الجنوبية منذ الستينات، حاول الأسد الابن، عبر فريق الدردري الاقتصادي، استنساخه في الحالة السورية، (نقصد الخلط بين اقتصاد مخطط واقتصاد سوق)، لكنه فشل فشلاً ذريعاً، بسبب السياسة الخارجية، والفساد، وتحكّم الأمن والعائلة بالحياة الاقتصادية السورية.

النهوض الاقتصادي...والاتكال على الغرب

وعلى هذا الصعيد، يبدو أن الاتكال على المعسكر الغربي، وفي مقدمته، الولايات المتحدة الأمريكية، ساهم في نهوض كوريا الجنوبية الاقتصادي، الأمر الذي يدفعنا لإعادة التفكير في نظرية سائدة لدى بعض المفكرين السياسيين والاقتصاديين، من أن التبعية الاقتصادية للغرب لا يمكن أن تؤدي إلى تنمية مأمُولة.

بطبيعة الحال، فإن التبعية الاقتصادية لدول أخرى له آثاره السلبية على سيادة واستقلال الدول، لكن في الحالات التي لا يكون لديك إلا خيارين: معسكر غربي، أو معسكر شرقي (عصر الحرب الباردة)، أو كما في الظرف الراهن: معسكر غربي، (معسكر روسي – صيني- إيراني)، يبدو أن الدول المُتحالفة مع الغرب في أوضاعٍ اقتصاديةٍ أفضل، ومستويات معيشة شعوبها أفضل، مقارنةً بتلك المُتحالفة مع المعسكر الآخر. وهو ما حدث تماماً في عصر الحرب الباردة، فالدول التي تحالفت مع المعسكر الشرقي، ظلت، في غالبيتها العظمى، في أوضاع اقتصادية سيئة، بل إن المعسكر الشرقي ذاته، وزعيمه حينها، الاتحاد السوفيتي، انهار اقتصادياً في نهاية المطاف.

دون شك، فإن الخلاصة الأخيرة تحتاج إلى الكثير من البحث الدقيق قبل الجزم بها، لكن يبدو أن تجربة كوريا الجنوبية المُتحالفة حتى اليوم مع الغرب، والكثير من الدول المُشابهة لها، مُشجعة لجهة النهوض الاقتصادي والارتقاء بمستويات معيشة الشعوب.

خاتمة

ويبقى أن نختم هذه الحلقة بالإشارة إلى أن تجربة كوريا الجنوبية لم تكن لتنجح لولا معطيات داخلية هامة، أبرزها إخلاص مسؤوليها، حتى في عهود الاستبداد، بالعمل لتحقيق التنمية. ولا يمكن لهكذا تجربة أن تُستنسخ في الحالة السورية بالصورة المطلوبة، إذا بقيت معدلات الفساد الاقتصادي والإداري في مستوياتها العالية، التي عُرفت بها الدولة السورية منذ عقود.

يتبع في الحلقة الثالثة...

سوريا وكوريا الجنوبية...كيف تكون سيرة الثانية عِبرة مفيدة للأولى؟ (1-3) 

المعجزة الاقتصادية لكوريا الجنوبية كانت وليدة ثلاثية "الاحتلال الأجنبي، والحرب الأهلية، والحكم الديكتاتوري العسكري". .. المزيد

ترك تعليق

التعليق