بعد إيران روسيا والصين وبلغاريا...قصّة التسهيلات الائتمانية ومستقبل اقتصاد سوريا

يرهن بشار الأسد اقتصاد سوريا بصورة متسارعة لصالح حلفائه. ويغوص هؤلاء بثقة متزايدة، ليغتنموا أكبر قدرٍ ممكنٍ من الاتفاقات المُشبعة بالديون التي سيتحكمون من خلالها بمستقبل إعادة إعمار سوريا، قبل الولوج في أية تسوية سياسية، من المُتوقع أن تنص على احترام الاتفاقيات التي وقعتها حكومة الأسد خلال هذه الفترة، ما دامت روسيا أحد الرعاة الدوليين الرئيسيين للتسوية المُرتقبة.

خلال العام 2013، اقتصرت مُجازفة تمويل اقتصاد نظام الأسد على الطرف الإيراني، الذي عقد اتفاقيتي تسهيلات ائتمانية مع الجانب السوري، الأولى كانت في نهاية أيار مايو الماضي، لتمويل استيراد سلع بقيمة مليار دولار قابل للزيادة فور استنفاذها، والثانية كانت في نهاية تموزيوليو الماضي، بقيمة 3.6 مليار دولار لشراء مشتقات نفطية وسداد المقابل على مدى زمني طويل، مقابل السماح لإيران بالاستحواذ على حصص استثمارية داخل سوريا. وكانت إيران قد وعدت الجانب السوري بإتمام هاتين الاتفاقيتين بأخرى ثالثة، لم تُعقد بعد، بثلاثة مليارات دولار كقرض ميسّر من طهران.

وبالاعتماد على استراتيجية مقايضة السلع، حصلت إيران على أبرز السلع السوريّة النوعية بالنسبة لحاجات سوقها، كزيت الزيتون، بالمقابل أجبر النظام مؤسساته العامة، والناشطين معه من القطاع الخاص، على شراء السلع والبضائع الإيرانية وفق مبدأ المقايضة، أو بناء على الخط الائتماني الإيراني، حتى لو كانت تلك السلع بأسعار تفوق نظيرتها في أسواق ودول إقليمية وعالمية أخرى.

وهكذا يبدو أن نظام بشار الأسد، بخلفيته "البعثية" التي لطالما هاجمت سياسة الامتيازات التي كانت تمنحها حكومات ودول عربية لجهات وقوى دولية، ينتهج ذات النهج، ويمنح إيران امتيازات، ويحوّل سوريا إلى سوقٍ للبضائع الإيرانية، حتى لو كانت أغلى ثمناً من نظرائها من دول أخرى.

والتسهيلات الائتمانية لمن لا يعرف معناها، هي قروض بفوائد في معظم الأحيان، لكن بعض القروض الاستهلاكية لا تشمل الفائدة في حال تم سداد كامل ثمن السلع المُشتراة من المُقترض وفق الجدول الزمني المُتفق عليه، أما في حال تخلف المُقترض عن الجدول الزمني المُتفق عليه للسداد، فيتم إدراج فائدة على القرض المُتعثر. وبطبيعة الحال، القروض التي حصل عليها نظام الأسد من إيران خلال العام الماضي، بمجملها، قروض استهلاكية، بعيدة المدى.

إذاً، نظام الأسد يرهن اقتصاد سوريا عبر الاقتراض من إيران، بالفائدة، أو عبر منحها امتيازات استثمارية خاصة بها في السوق السورية، وعبر إلزام تجار سوريا بشراء البضائع الإيرانية.

ترافقت المُجازفة الإيرانية بإقراض الأسد خلال العام الماضي مع ازدياد التورط الميداني الإيراني في سوريا عبر أذرعها المُتمثلة بحزب الله والميلشيات الطائفية العراقية.
لكن نجاة النظام، بدعم إيران، من كل المخاطر التي أحدقت به خلال العام الفائت، وإقرار الغرب بمبدأ الحل السياسي على أساس التسوية مع نظام الأسد، شجّعت باقي حلفاء الأخير، وعلى رأسهم روسيا والصين، للدخول على خط إقراض النظام، مقابل امتيازات خاصة لهم في الاقتصاد السوري.

ومنذ مطلع العام الجاري، بدأ الحديث عن خط ائتماني روسي مُرتقب يكتسي بجديّة مُتزايدة، تذهب بعض التقديرات إلى أنه قد يُحدد بمليار دولار، ويعتمد مبدأ الشراء بالدين من البضائع والسلع الروسية.

وها هي الصين أيضاً، المعروفة بحذرها في نشاطاتها السياسية والاقتصادية الدولية، تدخل على خط إقراض نظام الأسد، فقد وقّعت شركة "كامك" الصينية مؤخراً مذكرة تفاهم مع شركة أفاميا الحكومية للإطارات بحماه، بغية إعادة تأهيل الآلات والتجهيزات والمعدات في الشركة، وستُقدّم الشركة المذكورة بموجب الاتفاق قرضاً ائتمانياً لحكومة الأسد، لصالح شركة الإطارات، يُغطي 85% من قيمة المشروع.

بالتوازي، تسعى شركة "كانسي" الحكومية الصينية للاتفاق مع وزارة الإسكان السورية على تنفيذ وحدات سكنية لصالح مؤسسة الإسكان. وبالرغم من أنه لم يتم الإعلان عن آلية تمويل المشروع الذي يتم التباحث فيه حالياً، إلا أن القياس على تجارب التعاون الاقتصادي التي عقدها النظام مع حلفائه خلال السنة الماضية، يبدو أن سوريا ستتحمّل أعباء قرضٍ جديدٍ لصالح الصين.

ولم يقف نظام الأسد عند حدود حلفائه الدوليين والإقليميين، بل بدأ يفتح أبواباً للبحث في قروض أخرى من دول أخرى، منها بلغاريا، التي أعلنت وزارة الاقتصاد في حكومة الأسد نيتها السعي لتوقيع اتفاقية قرض ائتماني معها، على غرار تلك المُوقعة مع إيران، والمُرتقبة مع روسيا.

لا ينتظر نظام الأسد ختام مسيرة التسوية السياسية التي من المُتوقع أن تطول، فهو يلعب على حبل الإغراء المالي والاقتصادي، في بلدٍ دُمّر معظمه، لذا فكعكة إعادة إعماره وتأهيله تُثير شهية الكثير من اللاعبين الإقليميين والدوليين، ويبدو أن بشار الأسد وزمرته المُقربة بدؤوا يرتبون لاتفاقات مالية واقتصادية تُعزّز من ضرورة بقائهم النوعية بالنسبة لحلفائهم، كي يصبح الاستغناء عنهم في سياق أية تسوية مُحتملة، ضاراً بمصالح أولئك الحلفاء.

بالمقابل، فإن تحرك روسيا والصين، ومن ثم اليوم بلغاريا، ومستقبلاً، دول أخرى دون شك، باتجاه شراء امتيازات خاصة في سوريا، يُوحي بارتفاع منسوب الثقة لدى هذه الدول حيال مستقبل التسوية في سوريا، من ناحية قدرتهم على ضمان امتيازاتهم المالية والاقتصادية، عبر حليفهم الأسد، مما يعني أنهم أصبحوا أكثر ثقة بأن بشار الأسد وزمرته المُقربة، لن يخرجوا خارج دائرة المشهد السياسي المستقبلي في سوريا، إما بصورة مباشرة، أو عبر ممثلين لهم.

لكن أين الغرب، وحلفاؤه الإقليميون، من مشهد الحراك الإيراني –الروسي-الصيني، للاستيلاء على كعكة إعادة إعمار وتأهيل سوريا؟

قد يؤدي العرض السابق إلى أحد إجابتين عن السؤال الأخير:

الأولى: إن الغرب يقرّ لهذه القوى الإقليمية والدولية (إيران –روسيا –الصين) بأحقيّة نفوذهم الاقتصادي والمالي في سوريا في إطار اتفاقات غير معلنة لتقاسم النفوذ بين القوى الكبرى في العالم.

الثانية: إن الغرب وحلفاءه الإقليميين لا يملكون حليفاً سورياً يتمتع بالمشروعية القانونية، في الأعراف الدولية، يعقدون معه اتفاقيات إقراض، يستطيعون فرضها مستقبلاً على أية حكومة سورية ناجمة عن التسوية المأمولة بين المعارضة والنظام. لذا ينتظر الغرب ختام مسار التسوية السياسية، الذي سيطول دون شك، قبل أن يلج هو الآخر في كعكة إعادة إعمار سوريا، عبر حلفائه في المعارضة، ممن سيصبحون في السلطة، كشركاء لنظام الأسد، حسب الأُفق المُرتقب للتسوية المأمولة دولياً.

بكل الأحوال، يبدو أن اقتصاد سوريا المستقبلي بدأ يُرتهن لقروض لا تخدم مصالح شعبه، بقدر ما تخدم مصالح نظام الأسد وتحالفاته. ويبدو أن بشار الأسد استطاع أن يرهن حيزاً من مستقبل السوريين، كما تمكن من أن يحكم حاضرهم بمرارة، ويخلف أباه، في رهن ماضيهم القريب لصالح كرسي الحكم، ومصالح بضع عائلات مُتربعة على عرش السلطة بدمشق.

ترك تعليق

التعليق