"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا..."الجمهورية السورية الثالثة" (5)

2011.الجمهورية السورية الثانية تتهاوى منذ بدء الثورة السورية

أية مساعٍ لقمع الهويات الفرعية (العِرقية، الطائفية) في الكيان السياسي السوري، تهدد وحدة البلاد.

لا بدّ من "إعادة تأسيس نظام الولاء والطاعة بدءاً من القاعدة.

ضرورة الإقرار بحالة من الاستقلال المالي للأقاليم.

من غير السليم أن تفرض بعض الهويات الفرعية شكل الحكم الذي تفضله، بالقوة، ومن طرفٍ واحد.

عرفت سوريا المعاصرة، في القرن العشرين، حسب مختصين، جمهوريتين، الأولى التي تمثّلت بسيطرة النخبة المدينية (البرجوازية -الإقطاعية)، والتي تهاوت تدريجياً بعيد الاستقلال، وعلى وقع الانقلابات العسكرية مروراً بالوحدة السورية –المصرية، لتشهد سوريا ولادة الجمهورية الثانية التي تأسست بعيد انقلاب البعثيين (ثورة 8 آذار) عام 1963، والتي ترسخت في عهد الأسد الأب، لتتخذ ملامحها وسماتها الخاصة.

لكن معدّي بحث "الجمهورية السورية الثالثة"، وهم ثلّة من الخبراء السوريين، يعتقدون أن الجمهورية السورية الثانية تتهاوى منذ بدء الثورة السورية عام 2011، بصورة تقطع مع التاريخ القريب، وتجعل مستقبل سوريا، موحدة ولكل السوريين، يتوقف على تأسيس جمهورية ثالثة، بملامح وسمات جديدة، وعقد وطني جديد.

دعاوى عدم جدوى "الحكم المركزي"

بحث "الجمهورية السورية الثالثة" الذي تحدثنا عنه في ختام الحلقة الثالثة من سلسلتنا، وأشرنا إليه أيضاً في حلقتنا الرابعة، استخدم مصطلح "اللامركزية"، بدلاً من مصطلح "الفيدرالية"، والفرق بين الاثنين معقّد، لكنه كبير نسبياً. وقد فصّلنا في الفرق بين المصطلحين في الحلقة السابقة. لكن أبرز ما سنركز عليه في حلقتنا هذه هو الدعاوى التي على أساسها ذهب معدّو البحث إلى عدم جدوى إعادة إحياء الحكم المركزي في سوريا، وإلى ضرورة الإقرار بذلك، بغية الحفاظ على وحدة الكيان السياسي السوري المعروف اليوم.

ففي أعقاب إقرار أبرز فصيلين سياسيين كرديين في سوريا لخيار "الفيدرالية" عبر إعلان حكومة ذاتية في شمال شرق سوريا، يبدو أن الجدل في خيار "الفيدرالية" يجب أن يكتسي جديّةً أكبر، سواء من حيث موقف باقي الفرقاء السوريين منه، أو من حيث تفاصيله، التي ينطبق عليها بامتياز مبدأ "الشيطان يكمن في التفاصيل".

لكن قبل الولوج في تفاصيل خيار "الفيدرالية" "بكل شياطينها"، لا بدّ من الوقوف ملياً عند خيار الحكم المركزي المُطعّم باللامركزية الإدارية النسبية، الذي اعتمدته سوريا كآليةٍ للحكم منذ أكثر من خمسة عقود، والذي يتضمن في سياقه ضمانات واسعة لحفظ وحدة وسيادة الكيان السياسي السوري...هل بات هذا الخيار في حكم "الميت" سورياً؟، أم ما يزال من الممكن إعادة إحيائه رغم الضربات القاسية التي تلقاها خلال الثورة الراهنة، والتي أطاحت بنفوذ الدولة المركزي في مساحات شاسعة من التراب السوري؟

باختصار: إن كان الحكم المركزي هو النمط الأكثر ضماناً لوحدة سوريا، هل ما يزال من الممكن الإصرار عليه؟
يجيب معدّو بحث "الجمهورية السورية الثالثة" بالنفي. بل ويحذّرون من أن أية مساعٍ لقمع الهويات الفرعية (العِرقية، الطائفية) في الكيان السياسي السوري، تهدد وحدة البلاد.

بعبارات أخرى، رغم أن الحكم المركزي يتضمن أكبر نسبة من الضمانات التي تحفظ وحدة سوريا، إلا أن الإصرار عليه اليوم، قد يكون السبب الأبرز في تفتت الكيان السياسي السوري.

الولاء لسوريا الموحّدة يجب أن يكون طوعياً

ويعتقد معدّو البحث أن الحل الأمثل لتأسيس جمهورية جديدة مستقرة، تضم كامل التراب السوري وكل السوريين، يكون بـ "الوصول لشرعيةٍ توافقيةٍ انتقالية، تسمح بإدخال البلاد في مرحلة إعادة التأسيس للجمهورية الجديدة، وتسمح بالمحافظة على وحدة أراضي البلاد والعقد الوطني السوري الجامع، فلقد انتهى زمن الفرض والقمع والاستبداد العقائدي لكل الهويات الفرعية للمواطنة السورية".

ويذهب هؤلاء إلى أن الولاء لسوريا الموحدة يجب أن يكون طوعياً لكل مكونات الفسيفساء السورية، وأن "أيّة فرصة لاستعادة وحدة البلاد واستعادة منظومة الولاء لعلمٍ وقيمٍ مؤسسةٍ وموحدةٍ للجمهورية السورية لا بدّ أن يستند إلى طابعٍ طوعيّ بحت يسمح بالانطلاق من الدوائر الاقتصادية القاعدية لمختلف أقاليم البلاد بما يسمح باستعادة الأمن المحليّ أولاً ودورة الاقتصاد المحليّة ثانياً والبناء على ذلك وصولاً إلى وحدة البلاد".

ويعتقد معدّو البحث أن إعادة إنتاج سوريا موحدة، لا يمكن أن يتم اليوم بناء على أدوات قسرية أو قمعية، فالسعي لفرض وحدة التراب السوري بالقوة، لن ينجح هذه المرّة، بل يجب البحث عن نقاط توافق يمكن لكل السوريين أن يتفقوا عليها في نهاية المطاف.

فإعادة إنتاج نظام الدولة الشمولية مستحيل، ولا بدّ من "إعادة تأسيس نظام الولاء والطاعة بدءاً من القاعدة، وإعادة تأسيس قيم الديموقراطية بدءاً من مشاركة كلّ مواطنٍ في تحديد القرارات المباشرة التي تمسّه على الصعيد المحليّ، بانتظار أن تولّد العمليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قوى سياسية وطبقية جامعة تستطيع توليد مجتمعاً مدنياً قويّاً وأحزاباً سياسية قوية وقيادات وزعامات يمنحها المجتمع قدراً كافٍ من الثقة والسلطة".

فالشمولية حسب معدّي البحث سقطت تماماً في الكيان السياسي السوري، يقولون: "ما سقط في سوريا هو قيم الشمولية الجامعة، وما يجب أن يرتفع فيها هو روح التوافق الطوعيّ المستند إلى المصالح العملية للناس ولقيمهم الثقافية والدينية والوطنية المشتركة".

ويضيفون: "بعد ما جرى، لا يمكن لنا بأيّ حالٍ أن نتصوّر أيضاً أي مستوى من سيادة القانون والطاعة الضابطة للقانون ولا قبولاً من المواطنين بالتخلي عن حريتهم لصالح جهاز قمع الدولة ما لم يتمّ إعادة التأسيس لشرعيةٍ محليّةٍ تؤسس وتبنى عليها شرعية وطنية جامعة".

إذاً، فالتوافق بين السوريين يجب أن يكون طوعياً، ويجب أن تُراعى الخصوصيات المحلية، والمناطقية، ولا بدّ من الانطلاق من القاعدة إلى قمة الهرم، وليس بالعكس.

لكن لماذا يجزم معدّو الدراسة بحتمية انهيار الخيار الشمولي (المركزي) للدولة في سوريا؟

قوى مُتعددة بدل القوة المركزية القاهرة

يُجيبون: "إن القوة التي كانت تمتلكها الدولة المركزية لم تعد موجودة اليوم، وحلت محلها قوى متعددة، وتكتسب كل منها قوتها الخاصة محلياً، ويبقى أمامنا مهمة إعادة إنتاج بنية للدولة قائمة على المعطى الجديد، أي حلول القوى المتعددة مكان القوة المركزية القادرة والقاهرة في آن، ومن الصعب تخيل إمكانية عودة الدولة إلى القيام بعملها من دون أن تكون المنظومة الجديدة قائمة على الرضا، أي على الاعتراف بالقوى الجديدة".

لكن كيف يمكن إقناع تلك القوى المحلية الجديدة بالاعتراف بسلطة أخرى أعلى منها، تمثّل سلطة المركز في الدولة المأمولة؟، ووفق أي معادلة ستقبل تلك القوى أن تكون جزءاً من منظومة جديدة تشكّل الدولة المأمولة؟، أي أن يكونوا جزءاً من كلّ؟

فالقوى المحلية التي تحدث عنها البحث، حققت مكاسب راهنة، عبر السيطرة على مناطق محددة، والتمتع بنفوذ محلي قوي، وإدارة شؤون المناطق الخاضعة لها....فلماذا ستقبل بأن تكون جزءاً من دولة تتشارك فيها مع القوى الأخرى إدارة هذه الدولة؟، ووفق أية آلية؟

معادلة الأمن مقابل مستلزمات الاقتصاد والتنمية

يجيب معدّو البحث: "لا توجد إمكانات واقعية لإخضاع هذه القوى، وتالياً فإنه لا بد من الاعتراف بأن مهمة تأمين النظام العام ستكون مهمة لا مركزية بالدرجة الأولى، وستكسب شرعيتها على هذا الأساس، ومن هذا المنطلق ستكون قادرة على تخفيض وتائر الصراع المحتملة لمصلحة العملية التنموية، حيث لن تكون هذه القوى قادرة على تأمين مستلزمات الاقتصاد والتنمية من دون الاستناد على المجتمعين الأهلي والمدني".

إذاً ستكون معادلة الاندراج في بنيان الدولة الجديدة تقوم على تولي مسؤولية تحقيق الأمن من جانب القوى المحلية، مقابل تقديم مستلزمات التنمية والاقتصاد من جانب سلطات المركز في الدولة، ومن الفاعلين الأهليين والمدنيين في المجتمع.

مسؤوليات أكبر لمؤسسات الأقاليم

وفي حيثية أدق، يقرّ معدّو البحث بتعقيدات قضية توزيع الثروات والموارد، خاصة في حالة الأقاليم التي عانت من تهميش تنموي رغم ثرائها الطبيعي، كحالة الجزيرة السورية، مما يتطلب، حسب معدّي البحث، الإقرار بحالة من الاستقلال المالي للأقاليم، تترافق مع حالة ديمقراطية تعتمد الانتخابات المحلية في إدارة تلك الأقاليم، ومحاسبة المنتخبين، لتكون مسؤوليات مؤسسات الأقاليم، أكبر من تلك التي تتحملها مؤسسات المركز في الدولة المُرتقبة.

وستقوم معادلة توزيع الموارد، حسب معدّي البحث، على أساس المشاركة في بناء ميزانية الدولة والمشاركة في عملية توزيعها، بحيث تضمن الأقاليم حصصها مسبقاً من الميزانية العامة للدولة، ويكون توزيع الموارد على قاعدة تقدير الحاجات التنموية لكل إقليم.

أما على صعيد ضمان سلامة الحياة السياسية في الدولة المُرتقبة، وفق رؤية معدّي البحث، فإن "بناء الدولة الديمقراطية التعددية قد تكون أكثر سهولة في ظل الدولة اللامركزية، خاصة ولاسيما أن مآلات الصراع في سوريا قد تذهب في حال استمرار توازن الضعف بين النظام وقوى الثورة إلى تطييف الصراع، وجعله صراعاً طائفياً بأبعادٍ إقليميةٍ، وهو ما تظهر بوادره منذ فترةٍ وبقوةٍ بين شرائح مختلفة، كما أن طبيعة الولاءات الموجودة اليوم تظهر هيمنة الإقليمي على الوطني".

ويضيف البحث: "في ظل دولة لا مركزية يمكن أن تكون هناك الكثير من القوانين الخاصة بالأقاليم، (قوانين محلية لا ترقى إلى مستوى التعميم، لكنها يمكن أن تكون مطابقة لواقع ما بعينه)، وهناك نماذج عدة يمكن الرجوع لها في هذا الصدد".

استحالة إعادة إحياء "الدولة البسيطة"

وهكذا يخلص معدّو البحث إلى أن طرح اللامركزية يمكن أن يلبي طموحات التنوع السوري في لوحته الفسيفسائية، ويمكن أن يشكل رافعة للجمهورية الثالثة، كما أنه يعيد مسألة انبثاق الشرعية وتطورها إلى المستويات المحلية، بعد أن أصبح من الصعوبة بمكان توليد منظومة مركزية للشرعية، ومع وجود خلاف فكري حاد في مرجعيات القوى الثورية سياسية كانت أم عسكرية. 

بطبيعة الحال، فإن معدّي البحث المذكور يكررون مصطلح "اللامركزية"، ولا يتحدثون عن "الفيدرالية"، لكنهم في نفس الوقت يوردون تفاصيل سياسية وميدانية في جمهوريتهم المأمولة، تنسحب على النماذج "الفيدرالية" وليس على "اللامركزية".

بكل الأحوال، ما يهمنا من استعراض تفاصيل بحث "الجمهورية السورية الثالثة"، هو محاولة فهم لماذا يعتقد معدّوه بأن الحكم المركزي "الشمولي"، أي "الدولة البسيطة"، الذي عرفتها سوريا منذ استقلالها، لم يعد من الممكن إعادة إحيائها، وأنها تهديد لوحدة التراب السوري فعلياً.

استحالة فرض خيارات "الهويات الفرعية" بالقوة

وإن كنا نتفق مع معدّي البحث المذكور في معظم الدعاوى التي استندوا إليها في تبرير الحديث عن انهيار خيار "الحكم المركزي"، وعدم سلامة فرض وحدة التراب السوري بالقوة على الهويات العِرقية والطائفية السورية، إلا أنه بالمقابل، نعتقد بدورنا أنه من غير السليم أن تقوم بعض هذه الهويات بفرض شكل الحكم الذي تفضله، بالقوة، ومن طرفٍ واحدٍ، دون التفاهم مع باقي مكونات الكيان السياسي السوري، وهنا نقصد قرار القوى الكردية تشكيل حكومات محلية لهم في مناطق تركزهم.

وفي هذه الحيثية، يتحدث الاتحاد الديمقراطي الكردي، بزعامة صالح مسلم، الطرف الكردي الأقوى في شمال سوريا، عن أن الحكومات المحلية المُشكلة في مناطق تركز الأكراد، ستكون مؤقتة إلى حين انتهاء الصراع المسلح بين السوريين، ومن ثم يمكن الحوار والتفاهم بين كل الفرقاء على شكل وآلية الحكم في سوريا المستقبل. لكن مراقبين يخشون من أن الاتحاد يسعى لفرض أمرٍ واقعٍ وترسيخه قبيل انتهاء الصراع، ومن ثم تقديمه على أنه خيار لا رجعة عنه أمام باقي السوريين في أية مفاوضات مستقبلية للتسوية.

خاتمة

في الختام، يمكن الإقرار بحقيقة أن خيار "الحكم المركزي" وفق النمط الذي اعتاده السوريون في العقود الماضية، لم يعد مناسباً للمستقبل. 

لكن ماذا عن الخيارات الأخرى؟

يتبع في الحلقة السادسة...

"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...قارصلي يحذّر ويدعو إلى "اللامركزية" (4) 

الفوارق بين "اللامركزية" و"الفيدرالية" تُثير الكثير من اللغط. من مخاطر "الفيدرالية" وجود حكومة لكل ولاية 

... المزيد


‎‏ "اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...آراء مؤيدي خيار "الفيدرالية" (3) 

"الفيدرالية" تشكّل حلاً لبعض المشكلات المرتبطة بوجود أعراق وقوميات وطوائف متباينة الأهداف  بخلاف الحكم ... المزيد


"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا...آراء معارضي خيار "الفيدرالية" (2) 

"الفيدرالية" إذا طُبقت في إطار دولة واحدة ومجتمع واحد كانت عامل تجزئة وتفكيك. "الفيدرالية" تناسب  .. المزيد


"اقتصاد" تفتح ملف "الفيدرالية" في سوريا.. الاقتصاد عامل أساسي في إسقاط خيار "التقسيم" (1) 

الاقتصاد أكبر مشكلةٍ قد تجعل من سيناريو "الفيدرالية" تهديداً لوحدة البلاد النهائية خيار "الفيدرالية" مُتاح ولو .. المزيد

ترك تعليق

التعليق