الأموال السورية في لبنان … تأثيرات مزدوجة

ساعد التداخل في العلاقات السورية –اللبنانية، وعلى الأخص القطاع المصرفي، على تدفق المال السوري باتجاه لبنان منذ بداية الأزمة؛ "فرأسمال جبان" حسب تعبير كارل ماركس، ولكن انتقال الأموال لا يؤثر سلباً على الاقتصاد السوري، فهو أدى إلى تحول واضح في طبيعة الاستثمارات داخل لبنان، علماً أن هذا البلد يخوي ما يقارب 16 مليار دولار من ودائع السوريين وذلك وفق تقديرات عام 2010.

سوريا وأموال الخارج
منذ عام 2000 فتح ملف أموال السوريين في الخارج بشكل ملحوظ، وذلك مع السياسات الحكومية التي حاولت خلق مناخ من الليبرالية الاقتصادية، فظهرت البنوك الخاصة واتجه السوق السوري إجمالاً نحو تحرير الأسعار وفتح الاستيراد، وكان من المتوقع أن يعود قسم كبير من هذه الأموال لتشارك في العملية الاقتصادية السورية لولا حدثين أساسيين: الأول هو احتلال العراق عام 2003 التي أرخت بظلال ثقيلة على سوريا، ثم أزمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري التي خلقت أجواء توتر واضحة في سوريا، وبالتأكيد فإن العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة منذ ثمانينات القرن الماضي تؤثر سلباً على أي استقطاب لأموال السوريين في الخارج التي يقدرها بعض الخبراء بما يتراوح بين 120 و180 مليار دولار، وهناك تقديرات تتحدث عن 80 إلى 100 مليار دولار، وهو رقم كبير مقارنة للودائع في المصارف السورية التي كانت تقدر أزمتها بحولي 26 مليار دولار.

عملياً فإن المصادر مصرفية قدرت ودائع السوريين في المصارف اللبنانية بما لا يقل عن 10 مليار دولار، ويرتفع هذا الرقم إلى 15 مليارا وذلك بإضافة الاستثمارات السورية في بعض قطاعات الاقتصاد اللبناني، وهذه الأرقام كانت قبل 10 سنوات أكثر من 18 مليار دولار، وكان التجار السوريون يعتمدون على المصارف اللبنانية في فتح اعتماداتهم التجارية للاستيراد، لكن مع ظهور المصارف الخاص والسماح بالتعامل بالعملات الأجنبية تراجع حجم ودائع السوريين في المصارف في لبنان.

ومع بداية الأزمة عمد المستثمرون إلى إخراج أموالهم إلى البلدان المجاورة ومنها لبنان، وقدرت مصادر سورية هروب أكثر من 20 بليون دولار، واصطدم المستثمرون السوريون بتدبيرين: الأول تطبيق نظام مراقبة العمليات المالية والمصرفية لمكافحة عمليات تبييض أو غسيل الأموال، وتمويل الإرهاب. فرفضت المصارف في لبنان فتح حسابات مصرفية جديدة للسوريين بشكل عام، وذلك تنفيذاً لإجراءات المقاطعة الأميركية والأوروبية، مما دفع السوريين نقل أموالهم إلى بلدان أخرى.

والثاني: تطبيق قانون الامتثال الضريبي الأميركي المعروف باسم الـ"فاتكا"، لاستيفاء الضرائب من الأميركيين أو الذين يحملون الإقامة في الولايات المتحدة ويقيمون في الخارج، الأمر الذي حمل بعض السوريين على نقل أموالهم من لبنان. وأدت تلك الإجراءات لتراجع حجم ودائع السوريين في لبنان، واضطر معظم التجار للاستعانة باللبنانيين لفتح اعتمادات الاستيراد إلى سوريا.
الودائع في لبنان

الودائع السورية في لبنان قبل الأزمة التي قدرت في الوسطي تقدر 16 مليار دولار هو من أصل 144 مليار حجم الودائع في البنوك اللبنانية، ومع بداية الأزمة السورية ارتفاع رقم الودائع ورقم احتياطي مصرف لبنان بشكل خاص من 29 مليار إلى 37 مليار، ولم تعلن السلطات النقدية اللبنانية مصدر هذه الزيادة، رغم أن هذه الفترة شهدت انخفاضاً في واردات السياحة اللبنانية وضعف التحويلات من الخليج وأوروبا، وهذا يدل على أن هذه الزيادات الكبيرة والمفاجئة مصدرها سوري، فهناك 40 فرعا للمصارف لبنانية في سوريا، وهي تستحوذ على 51% من حجم في المقابل فإن معظم الاقتصاديين يؤكدون إن نسبة مرونة تأثير الاقتصاد السوري المباشرة على الاقتصاد اللبناني هي بحدود 20%، وهو يعني إن انخفاض معدل النمو السوري 1% يقابله فوراً 0.2% من الجانب اللبناني، والنظام النقدي اللبناني لا يستطيع تحمل ودائع كبيرة في ظل تباطؤ النمو الاقتصادي لأنه سيكلفه فوائد مالية عالية، لكن الاستثمارات السورية المباشر في لبنان بقيت قليلة وضعيفة، فأغلبها ورشات ومطاعم صغيرة، فهروب رؤوس الأموال السورية إلى لبنان لم يكن للاستثمار بل من أجل الأمان، فعودتها ممكنة إذا استرجعت سورية استقرارها.

عملياً فإن المال السوري أثر على سوق العقارات اللبنانية بشكل أساسي، فهناك واقع ديموغرافيا مع وصول أعداد كبيرة من السوريين يملك معظمهم صلات قربى مع عائلات لبنانية، وهذا الأمر مرشح للتطور وذلك من خلال الإقبال على شراء العقارات، وهذه الظاهرة شهدها لبنان منذ عشرات السنين عندما حصل التأميم في سوريا وهجرت الرساميل دمشق إلى بيروت، وتركيز رؤوس الأموال السورية على الاستثمار في القطاع العقاري رفع الطلب المحلي، وزاد الأسعار في بعض المناطق خصوصا في الشمال، وبغض النظر عن المراوحة التي سجلت مطلع عام 2011 في سوق العقار فإن المستثمرين توجهوا نحو سوق فاعلة من خلال استبدال الاستثمارات في المشاريع العقارية الضخمة بالاستثمار في مشاريع صغيرة تجاري الطلب الحالي. هذا مع الإشارة إلى أن السوق العقارية تضم قطاعين رئيسيين، الأول هو القطاع السكني الذي يشهد نموا متزايدا، والثاني هو القطاع التجاري الذي يشتمل على المكاتب والمساحات المخصصة لتجارة التجزئة والذي ينمو إنما بوتيرة أبطأ من القطاع الأول، والواضح أن عدد العمليات العقارية تباطئ منذ بداية العام 2011 وبنسبة 30 في المائة مقارنة مع السنوات الخمس الأخيرة، لكنه عاد وارتفع اعتباراً من شهر أيار من نفس العام.

بالتأكيد فإن الأزمة السورية أثرت بشكل واضح على الواقع النقدي في لبنان، رغم أن هجرة المال السوري إليها لم يكن بحجم الهجرة إلى تركيا أو حتى إلى مصر، ولكن التشابك الاقتصادي والجغرافي لعب دوراً حاسماً في هذا الموضوع، وفي المقابل فإن العودة إلى الاستقرار وإعادة الإعمار في سوريا سيؤثر أيضاً على الإيداعات المصرفية في لبنان عموماً، وهو ما يدفع الخبراء إلى الحديث عن ضرورة تعزيز قوة المصارف اللبنانية في سوريا رغم الأزمة التي تعيشها هذه المصارف، فإعادة الإعمار سيستخدم بشكل أساسي القطاع المصرفي اللبناني وفروعه في سوريا، فالأزمة أوضحت حالة بنيوية بين اقتصاديات سوريا ولبنان رغم اختلاف التشريعات بينهما، ورغم التباين في النموذج الاقتصادي بين البلدين، وإذا كانت البيئة اللبنانية تاريخيا كانت ملاذا للمال السوري، إلا أن التشابك الحال يوضح أن المسألة مركبة تتجاوز المال والاستثمار ليدخل إليها "سوق العمل" الذي يبدو أن يرسم بعضا من ملامح العلاقة بين البلدين.

ترك تعليق

التعليق