أحاديث لرمضان.. والدي والشاي


كان والدي رحمه الله يحب الشاي كثيراً، ويتمتع بصنعه لدرجة أنه كان لا يشرب الشاي إلا من صنع يديه.. وكان الشاي يوفر له صداقات حميمة مع الكثير من رجالات الحارة، ممن يجتمعون يومياً أمام بيتنا، بعد أن يكون والدي قد رش الطريق بالماء وأخرج الكراسي وأحضر الشاي.

وكان والدي وأصدقاؤه يتحدثون عن العمل والهموم وشؤون الحارة وجمال عبد الناصر، وفي كثير من الأحيان كانوا يستمعون لأم كلثوم فقط.

لقد استمر والدي على هذه العادة أكثر من عشرين عاماً، حتى نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي، وكانت جزءاً من طقوسه المحببة إلى نفسه وأحد عوامل توازنه النفسي والعقلي في البيت.. ثم بعد ذلك، أخذ أصدقاء الشاي يتوارون الواحد تلو الآخر، إلى أن وصل والدي إلى مرحلة، كان يرش فيها الطريق بالماء ويخرج الكراسي ويحضر الشاي، ولكن دون أن يجتمع لديه أحد..

كنت في تلك الفترة أرقب علامات الحزن في عينيه وهو يجلس وحيداً في الشارع مع إبريق الشاي، تحف به الكراسي الفارغة من كل الجوانب. ثم بعد ذلك قرر أن يرتد بعزلته إلى الداخل، ولم يعد يخرج من البيت إلا للعمل، وبدأنا نلاحظ أنه لم يعد يحب الشاي ولا يقوم بصنعه بنفسه، والأصعب من كل ذلك، أنه أصبح عصبياً ونزقاً، إلى أن ألم به مرض عضال أقعده طريح الفراش والتأوه، وأصبحت علاقته بالحياة متعلقة بحبة دواء يتناولها صباح مساء، ثم فيما بعد عجزت هذه الحبة عن أن تمده بالحياة، فتوفاه الله في نهاية العام 1979.

ما يذكرني بهذه الحادثة، هو حالة الاغتراب النفسي التي بدأت مبكراً مع اختراع التلفزيون، وعاصرها آباؤنا ولم يتحملوا قسوتها، وكانت السبب بكآبتهم في مرحلة متقدمة من أعمارهم.

أما اليوم، فتشعر وكأن هناك حالة اكتئاب جماعي، أو حالة تشبه الانهيار العصبي الجماعي.. تخيل لو أنك قررت زيارة صديق حميم بعد غياب فترة طويلة، إنك على الأغلب لن تستطيع أن تجلس معه لأكثر من عشر دقائق.. إن الواحد منا أصبح يشعر أن روحه شاردة تائهة، لا تستطيع التآلف حتى مع آخر حميم.

ترك تعليق

التعليق