عطور بدأت قرب "الأموي" بدمشق.. ثم حملتها الأيام إلى "الفاتح" في اسطنبول


لابد لمن يعرف دمشق أن يعرف أسواقها القديمة وجوامعها، وربما من أشهرها على الإطلاق سوق الحميدية الذي تندلف منه إلى سوق المسكية في مواجهة الجامع الأموي الكبير الشاهد على كل مجريات دمشق القديمة والحديثة والمعاصرة، ولابد أن يتذكر كل من مر من تلك المناطق روائح العطور الشرقية والبخور والقِدم تفوح من كل زاوية، ويحملها الإنسان معه أينما ذهب.

في عام 1984م هُدم سوق المسكية وبقي منه القليل وسميت الساحة المواجهة للجامع الأموي التي حلت محل السوق بساحة المسكية والتي تتطاير منها الحمامات باتجاه مآذن الأموي "العروس والنبي عيسى وقايتباي" لتشاهد أحداث البلد من فوق.

سميت المسكية بهذا الاسم نسبة لبيع عطر المسك فيها. أحد دكاكين السوق القديمة "معطرة الأمويين" تأسس عام 1951م على يد "شفيق قصار" أحد عطاري دمشق المشهورين، ولكن بعد هدم السوق أوقف معمله. وورث عنه ولداه محمد ومنصور الحرفة، وبعد فترة أصبح لديهما ثلاثة فروع في دمشق، اثنين في سوق الشعلان ثم ثالث في سوق الحريقة باسم "دنيا العطور".


موقع "اقتصاد" التقى "شفيق منصور قصار"، حفيد صاحب المهنة والذي يحمل اسمه في ولاية إسطنبول التركية، متحدثاً عن رحلة طويلة من العمل في سبيل تقديم منتج سوري مميز بعد عشرات السنوات من الخبرة في المجال.

يقول "قصار": "بدأنا منذ عام 2012 في مدينة دبي الإماراتية من جديد باسم (قصار للعطور) وأسسنا معملاً هناك، كما أن لدينا نقطتي بيع. ولا نبيع العطور فحسب بل نصنع بعض المستحضرات من صابون طبيعي بالكامل، منه عادي وآخر علاجي يستخدم الكبريت في تركيبه من أجل علاج حب الشباب وأشياء أخرى".

وأضاف "قصار": "في عام 2017 قررنا التوسع فافتتحنا فرعاً جديداً في إسطنبول في منطقة الفاتح الشبيهة إلى حد ما بحارات الشام القديمة خصوصاً الجامع الأموي وما حوله، وجامع السلطان محمد الفاتح والأسواق والحارات التي تحيط به، فعلاً كل ذكريات الشام تجدها هنا".


وأردف "قصار": "نستورد الزيوت العطرية من فرنسا من معامل نتعامل معها منذ كنا في دمشق، ونعمل في الجملة والمفرق. المنافسة في السوق التركي صعبة للغاية لوجود عدة شركات سورية أخرى أغلبها في إسطنبول وبعضها في ولايات جنوب تركيا، وإن كان بعض الأتراك يشترون منا بالجملة ولكنهم قلة".

يختلف العطر الذي يُباع في تركيا عن العطر الذي كان يبيعه العطارون في سوريا من ناحية الرائحة والجودة والاسم ويعود ذلك لاختلاف المصانع التي يستورد منها العطارون الزيوت في أنحاء أوروبا، وإن كان أجودها الفرنسي والسويسري.

وأكّد "قصار" في حديثه لـ "اقتصاد" أنه لم يكن يوجد أي معامل لتصنيع العطر في سوريا رغم أن جده كان يصنع على يده بعض العطور مثل عطر الياسمين ولكن التكلفة والنتائج والكميات مختلفة عن العصر الحالي تماماً. "في سوريا وحتى عام 2011 كانت أزهار الياسمين والفل والجوري والزنبق تصدر إلى فرنسا ثم نعود نحن فنستوردها كزيوت عطرية، توقف ذلك منذ حوالي 8 سنوات، واستعاض الفرنسيون عن ذلك بالياسمين المصري لأنه أقرب ما يكون للياسمين الشامي".


وألمح "قصار": "بصراحة كانت الإمكانيات متوفرة في سوريا لإنشاء مصانع، ولكن لم يكن هناك أي دعم لذلك بل وتوجد عوائق كثيرة، منها عدم وجود ماكينات خاصة لتصنيع وتقطير الزيوت ولكن كان من الممكن استيرادها ويمكن لسوريا أن تحتل موقعاً مهماً في التصنيع والتصدير لأنها بلد إنتاج مهمة للزهور".

تختلف العطور الشرقية عن الغربية بشكل كبير وواضح، ولكن السوريين أقرب بأذواقهم لتركيا وأوروبا منهم لمناطق الخليج العربي واليمن، وبحسب "قصار": "يفضل السوريون والأتراك الروائح الخفيفة (الفرش) مثل (فوياج وفيكتوس وشانيل)، بينما يميل أبناء الخليج للروائح الثقيلة كالعود والعنبر، وإن اشتهرنا في سوريا بأننا كنا نقدم جميع أنواع العطور بما فيها المعروفة عربياً كـ (المسك الأبيض والأسود والفل والياسمين والورد والعنبر) وغيره".

 يتنوع زبائن قصار للعطور في إسطنبول وإن كانت الشريحة الأكبر من السوريين تليها العراقيين والفلسطينيين والأردنيين ثم الأتراك ثم أبناء الخليج العربي.


ويصنع معمل قصار عدة "ماركات" عطور خاصة بهم مثل (ميمودا) والتي لا تختلف عن العطور العالمية بالروائح إلا أن لها عبوات وأرقام خاصة، بالإضافة لماركات مزيل التعرق وعطور ما بعد الاستحمام، كـ (الإميغو والمونتاج والروماتيك والسهارى). "والسهارى هي الأولى من نوعها عربياً إذ نصنع مزيلات التعرق من عطور عربية كالعود والعنبر والزعفران، وأخيراً عبوات الأطفال"، كما قال "قصار".

ربما مر أكثر من 67 عاماً على افتتاح قصار الجدّ لدكان العطورات القديم في سوق المسكية بالعاصمة السورية دمشق، وواجه الجد ثم الأبناء والأحفاد الكثير من الصعاب في سبيل الحفاظ على هذا الإرث القديم ليكون علامة مسجلة اليوم، ونجاح جديد للسوريين خارج بلدهم، مع بقاء رائحة دمشق تفوح من المحل الجديد هنا في إسطنبول رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة لأن الاتقان في العمل والسمعة الطيبة كان أهم ركن تعلموه من الجد وهو يصنع عطوره قرب جامع بني أمية الكبير وهو يستمع إلى كل آذان جماعي يعلو مآذنه.


ترك تعليق

التعليق