نزيلات دار الضيافة في حمص..من الإيواء إلى التشريد!

بناء قديم متهالك وأبواب حديدية موصدة فوق مخفر للشرطة، أضاف إلى الصورة قتامة ومأساوية لا تخطئهما العين. ذلك كان مقر دار الضيافة في مدينة حمص الذي يختزن خلف جدرانه آلاف القصص المحزنة والحكايات المؤلمة لفتيات في عمر الزهور، أُعتدي على شرفهن، وأُرغمن على سلوك طريق الضياع والخطيئة، ليس لذنب اقترفنه، وإنما لأنهن ضعيفات في مجتمع لا يرحم ولا يرى من وسيلة لغسل العار إلا الدم. ونعمة الإيواء في المركز الذي حماهن ورعاهن سنوات طويلة تحولت إلى تشريد وضياع بعد تغوّل النظام واعتدائه على البشر والحجر.

قصة تأسيس دار الضيافة تستدعي العودة إلى عام 1954 عندما تأسست في مدينة حمص السورية جمعية لحماية الأحداث، وقد اقتصرت مهام هذه الجمعية آنذاك وحتى منتصف الثمانينات على الجانحين الذكور دون الإناث لأن جنوحهن كان نادراً آنذاك, حتى أنشئت عام 1985 (دار الضيافة) التي خصصت لإيواء الجانحات, اللواتي حالت ظروف أسرهن دون إمكان القيام بتربيتهن على الوجه الأكمل, لمعالجة قضاياهن وحمايتهن ورعاية شؤونهن وإصلاحهن سلوكياً واجتماعياً. وكان يقوم على تولي شؤون هذه الدار المختص الاجتماعي (إبراهيم عبد المولى) الذي أمضى أكثر من نصف قرن في الخدمة وإصلاح الأحداث.

حول فكرة إحداث (دار الضيافة) وظروف تأسيسها يقول الحاج عبد المولى لـ اقتصاد ": "قبل عام 1954 لم تكن هناك جمعيات لإيواء الأحداث الجانحين في سوريا, بل كان هؤلاء الأحداث يُزجون في غرف خاصة في السجون المركزية. وبعد هذه الفترة تأسست عدة جمعيات لحماية الأحداث في مدن سورية عديدة. حيث أُنشئت في دمشق جمعية باسم (دار تربية الفتيان)، وفي حمص (جمعية حماية الأحداث). ومعظم هذه الجمعيات، كما يُلاحظ من اسمها، كانت تأوي الذكور فقط، لأن جنوح الإناث في تلك الفترة كان أمراً نادر الحدوث. وفي عام 1985, واعتماداً على نظام تأسيس الأحداث في حمص, تقدمنا بطلب ترخيص لإحداث (دار الضيافة)، تأوي الفتيات اللواتي حُرمن من الرعاية الأسرية، واللواتي اعتُدي على عفافهن، والفتيات المُشردات. وتم ترخيص الدار والترخيص على النظام الداخلي بتاريخ 7/5/1985 بناء على القرار رقم 485 والمادة السابعة من قانون الجمعيات والمؤسسات الخاصة المطبق بالقرار (93) من القانون لسنة 1985.

  • إعانات النظام والفرز الطائفي!

وحول طبيعة المهام التي كانت تتولاها دار الضيافة قبل أن يتم إغلاقها وتشريد نزيلاتها مع بداية الحرب السورية، يقول الحاج عبد المولى: "كانت (دار الضيافة) تتولى جمع المعلومات المتعلقة بماضي الحدث، السوابق الوراثية والسوابق الشخصية والسوابق الاجتماعية، ودراسة خصائص شخصية الحدث، وخاصة ما يتعلق بحالتها الصحية والنفسية وقابليتها الدراسية، واستعداداتها المهنية والوقوف على العوامل التي أدت إلى الجنوح، واتخاذ التدابير المناسبة لإصلاحها. وكانت دار الضيافة تقبل جميع الأحداث اللواتي أتممن السابعة وحتى العشرين من العمر واللواتي يتم تحويلهن من المحاكم. وألحق بالدار مكتب لمكافحة التشرد لجمع الأحداث اللواتي يتواجدن في الأماكن العامة، ويقمن بأعمال شائنة، وتتولى الدار مهمة تسوية أمور الجانحة مع أهلها وتزويجها ممن اعتدى على عفتها أو من زوج تراه الدار مناسباً ويستطيع تأمين حياة مستقرة وسعيدة، ويتم تسجيل هذا الزواج في المحكمة الشرعية أصولاً.

ويذكر الأستاذ إبراهيم عبد المولى أن (دار الضيافة) قامت بتزويج أكثر من مئة فتاة من نزيلاتها خلال العام 2007. ويتم تجهيز أولئك الفتيات من أموال أهل الخير والقيام بزيارات ميدانية إطلاعية إلى بيوتهن، وتقديم الهدايا والمساعدات الإنسانية، كما تظل الفتاة المتزوجة منهن على صلة بالدار حتى إنجاب ولد أو ولدين للاطمئنان على وضعها الاجتماعي وحياتها الأسرية بجهود فردية من بعض المصلحين الاجتماعيين والوجهاء ورجال الدين في المدينة، وليس بجهود النظام الذي كان يعرقل في بعض الأحيان هذه الجهود، وتفضّل أجهزته الأمنية بقائهن في الدار لأسباب غير معروفة.

ومحاربة النظام للجمعيات والمراكز الإصلاحية لم تقتصر على هذا الجانب، بل تمثلت أيضاً في تقنين المساعدات والدعم المادي الذي تغدقه على الجمعيات ذات الإنتماء الطائفي مثل جمعية النهضة العربية وجمعية المرتضى وغيرها، بينما تقتره على مركز دار الضيافة. فإعانات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية خلال عام لم تكن تكفي شهراً واحداً، وكانت الدار تستكمل الباقي من إعانات أهل الخير والإحسان من الميسورين، لكن المجتمع للأسف لا يزال ينظر للفتاة التي تخطئ على أنها ساقطة وزانية وأنها عاهرة وإلى ما هنالك من الصفات، ويمتنع البعض عن مساعدة الدار لاعتقادهم أن فتياتها خاطئات يجب قتلهن لا مساعدتهن، مع أن هذا مخالف لجميع الشرائع السماوية والقوانين المتعارف عليها. نزيلات الدار فئة منبوذة من المجتمع.

  • الجنوح والمفهوم الخاطئ للحرية!

وحول نسب نزيلات (دار الضيافة) خلال السنوات الماضية وما هو مستوى وعيهن، يوضح الأستاذ إبراهيم عبد المولى أن هذه النسب متفاوتة من عام إلى آخر، ففي عام 1986 كانت هناك 474 فتاة نسبة المتعلمات منهن 54.5 % ونسبة 45 % وأكثر من المتعلمات بين المرحلة الإعدادية والثانوية، أما حالات المرحلة الجامعية فنادرة. وفي عام 1989 ارتفعت هذه النسبة إلى 512 فتاة نسبة المتعلمات بينهن 56.42 % والأميات 42.58 %، 59.7 % من المدن و 40.24 % من القرويات. وفي عام 1990 أصبحت النسبة 512 فتاة نسبة المتعلمات 60.5 %، ونسبة الأميات 39.5 %، و 66.25 % من المدن، و 3.75 من الريف.

وعن تفسيره لزيادة نسبة المتعلمات الجانحات على نسبة الأميات، يرى عبد المولى أن مفهوم المجتمع العربي للحرية ما يزال مفهوماً خاطئاً ومعايير التربية الاجتماعية غير صحيحة أو أنها مقصرة جداً، فمن ذلك الأب الذي لا يعطي لأولاده ذكوراً وإناثاً من وقته في الأسبوع للسماع إلى مشاكلهم وتوجيههم ومساعدتهم، وللأسف كل اللواتي جئن إلى الدار كنت أسألهن عن اهتمام آبائهن بمشاكلهن الخاصة، فكن يجبن بالنفي، وعندما تقع المشكلة للفتاة في المنزل فالأب آخر من يعلم والأم تعرف قبله ولكنها لا تجرؤ على البوح خوفا ًمن أن يقع المحظور على ابنتها وعندها تقع الكارثة. الفتاة المتعلمة عندها حرية تنقل أكثر من المحجوبة في البيت ولذلك تتعرض لمواقف ومشاكل خصوصاً في مجتمع تسوده مفاهيم خاطئة عن الحرية.

ويرى الباحث التربوي الدكتور"عدنان مسلم" أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق أن جنوح الفتيات واحدة من أخطر المشكلات الاجتماعية التي تواجه الأسرة والمجتمع على حدٍ سواء، ويمثل الجنوح لدى هذه الشريحة نمطاً من السلوك يرى فيه المجتمع خروجاً على قواعده. أما من الناحية النفسية فتتصف شخصية الجانحة بذات ضعيفة لا تمكّنها من إدراك الواقع وتجعلها أداة سهلة لتنفيذ الرغبات الشاذة وفقدان القدرة على التوفيق بين دوافعها الفطرية ومقتضيات الواقع. وترجع أسباب الانحراف من وجهة نظر مدرسة التحليل النفسي إلى وجود استعداد فطري لدى الفتيات وإلى اضطراب علاقتها الاجتماعية في مراحل طفولتها المبكرة.

ترك تعليق

التعليق