"سحلب" الحاج منصور خواتمي.. قصّة من تاريخ حلب القريب


على مقربة من باب الحديد، أحد أبواب حلب القديمة، وفي منطقة تكتظ بالمعالم الأثرية، كان يقع محل الحاج "منصور خواتمي"، أقدم محلات بيع السحلب في المدينة، وربما في سوريا كلها، إذ يعود تاريخ إنشائه إلى أكثر من 200 عام، وخلال تلك الفترة الطويلة تحول المحل الصغير في مساحته إلى جزء حميمي من تاريخ المدينة التي يصفها مؤرخون بأقدم مدن التاريخ، ومقصداً يومياً لأهلها من موظفين وعمال وطلاب يرتادونه لتناول تلك الوجبة المسماة (صمنة حج منصور) وبخاصة في مواسم الشتاء، علها تنعش أجسادهم وتمنحها الحرارة والدفء مع بدء ساعات النهار.
 
و"السّحلب" عبارة عن شراب شعبي مشهور عربياً، وخاصةً في بلاد الشام وفي مصر والحجاز، وهو نبات معروف من فصيلة السحلبيات، يُزرع للزينة كما يوجد بريًّاً وله جذور درنية لونها أسمر من الخارج وأبيض من الداخل وأوراق ضيقة غالباً ما تكون ملطخة بلون أسود، وللساق أزهار بنفسجية، ويشتهر بمسحوقه الأبيض النشوي الذي يصنع منه شراب السحلب المعروف، ويتكون من الحليب بشكل رئيس ومسحوق درنات نبتة السحلب. وهو من الأكلات المشتركة مع التراث التركي بحكم الجوار مع حلب.


 وتعتبر عائلة "خواتمي" في "حلب" من العائلات المرموقة والمعروفة، التي ارتبط اسمها منذ عقود خلت بهذا المشروب. وروى "عبد الكريم خواتمي" ابن صاحب المحل لـ"اقتصاد" أن والده الحاج "منصور خواتمي" ورث المهنة عن والده "محمد خواتمي" عام 1965 الذي كان قد ورثها بدوره عن جده، وكان المحل في البداية فرناً لخبز الخبز وبيع السحلب، مضيفاً أن والده التحق بالمحل في الخامسة عشرة من عمره أي قبل ستين عاماً.

 وروى محدثنا أن أهل المنطقة التي يقع فيها محل العائلة اعتادوا على شراء الخبز من محل قريب ثم يدلفون في الصباح الباكر إلى محل والده لتناول السحلب الذي كان ولا يزال المشروب الشتائي المفضل للحلبيين.


 وأردف خواتمي أن 80% من سكان حلب الأصليين يعرفون الحاج منصور وسحلبه الساخن وصمنته التي ظهرت بعد إغلاق الفرن الملاصق للمحل، وكان يقوم بشق الصمونة إلى شطرين ويضع بداخلها حلاوة وطحينة لتؤكل مع السحلب الذي يُسكب لهم في أوانٍ زجاجية قبل أن يشيع استخدام كاسات البلاستيك والكرتون.

كان ذلك قبل أن تؤدي ظروف البلاد إلى إغلاق المحل الذي شكّل معلماً من معالم المدينة، لعقود.


 ولفت خواتمي إلى أن مهنة صناعة السحلب كانت في الماضي مهنة صعبة وشاقّة بسبب عدم توافر مواقد الغاز كما اليوم، إذ دأب جده-كما يقول- على تجفيف زهر السحلب وطحنه وطبخه بالماء والنشاء والحليب منذ ساعات الفجر الأولى ثم يشعل الحطب في محرقة ويأخذ الحليب إلى حلة أخرى ليتم تحريكه مع السكر ويوضع الجمر في منقل خاص تحت الحلة ليبقى السحلب فور تجهيزه ساخناً طوال اليوم فهذا المشروب لا يُقدم إلا ساخناً، ويكتسب مذاقاً لذيذاً إذا كان مغلياً على مواقد الحطب بعكس مواقد الغاز، ويُباع ضمن إبريق ضخم من التنك الأبيض أو الأصفر، أسطواني من الأسفل، يعلوه بشكل مخروطي، تعلوه الرقبة الأسطوانية الضيقة بعد أن يُرش عليه القرفة أو الفستق الحلبي المبروش.


وكان يرجع السر في استمرارية نجاح محل خواتمي للسحلب–كما يؤكد محدثنا- إلى محافظته على النكهة اللذيذة، فضلاً عن عدم تغيير أي مكون من مكونات هذا المشروب الشتوي، والإعتناء بجودة المواد الأولية الداخلة فيه من حليب ونشاء وقرفة والحرص على عدم إدخال أي منكهات صناعية. 

ويوصف السحلب كشراب مغذ ومليّن للأمعاء ويقدم ساخناً لزجاً أبيض، يشرب غالباً صباحاً وحده، أو مع الكعك بسمسم، أو مع الصمون حالياً، بعد أن ترش عليه القرفة الناعمة، والبعض يضع عليه ماء الزهر؛ كعادة سكان حلب الذين يحبون أن يضيفوا ماء الزهر على الكثير من ألوان الشراب والطعام.


وبدوره روى المؤرخ "علاء السيد" أن باعة السحلب اعتادوا فيما مضى على التجوال في أحياء حلب والنداء على بضاعتهم "سحلب.. سحلب سخن، سحلب حليب يا كرم الله يا كريم"، فيشربه الناس وخاصة في الشتاء لتدفئة الجسم، أو لإملاء فراغ المعدة قبل التوجه لأعمالهم، وكشف السيد أن سكان حي "قسطل الحرامي" وسط المدينة القديمة، كانوا في الماضي كغيرهم من الأحياء الفقيرة، يشترون السحلب بالصحون أو الطاسات بخمسة قروش أو عشرة قروش، حسب عدد أفراد الأسرة، ويقطعون الخبز إلى "فتات صغيرة أو بقايا الخبز اليابس" ويغمسونها بطاسة السحلب ويأكلونها، وتعتبر تلك وجبة الإفطار التي تنوب عن جميع ألوان طعام الصباح المعهودة اليوم.‏


ترك تعليق

التعليق