"لم يعد لديّ ما أخسره".. قصّة حدثت في "كراج طرطوس"


وصلت رشا إلى كراج طرطوس بعد انتهاء دوامها في مديرية الصحة في الساعة الثالثة بعد الظهر، وقفت قرابة النصف ساعة، شعرت بالتعب، أسندت ظهرها إلى حائط قذر، أشعلت لفافة تبغها الأولى والثانية والثالثة، جلست على الأرض، أصبحت الساعة الخامسة، لم تتمكن من تأمين مقعد لها في إحدى وسائط النقل العامة المتجهة إلى دريكيش.

تزاحمٌ وتدافعٌ وأعدادٌ غفيرة من البشر تنتظر معها، يتراكضون ويشتمون، يهمهمون كلمات غير مفهومة، الجميع متفق على لعنة الحكومة ووزارة النقل وإدارة المحافظة لفظاً، ويتحفظون على إطلاق الشتائم بحق القيادة السياسية والأمنية، فعدد المخبرين وعناصر الأمن قد يفوق عدد المنتظرين لوسيلة نقل تقلهم إلى قراهم وعائلاتهم.

كل شيء متوقف حتى الحياة وعقارب الساعة، يمضي الوقت ثقيلاً مرهقاً وكأنه لا يريد المسير، محطماً لأعصاب المنتظرين.

تعرّضت إلى عدد من محاولات التعارف وسمعت كلام الغزل والتلطيش، كما وصل إلى أذنها كلمات نابية خادشة للحياء اعتادت سماعها كل يوم، بينما يتجول باعة العلكة والكعك وطالبو المساعدة من جرحى الحرب المقعدين أو مبتوري الأطراف، وأطفال ونساء يتخذون من سؤال الناس مهنة لجني الأموال أو تأمين متطلبات حياتهم.

اقترب منها رجل مسن يحمل مصباً للقهوة، ثبته على كتفه، عرض عليها أن تشتري منه كأساً، نظرت إليه نظرة عميقة، تفحصت وجهه وما يحمله من ثقل كبير ينوء به، أشاحت بوجهها عنه، نظرت إلى البعيد، حاولت إخفاء تأثّرها، أخرجت سيكارة جديدة، أشعلتها، شعرت بحاجتها إلى ما يرطّب بلعومها، سحبت نفساً عميقاً وطردت الدخان، نادت البائع، سألته عن سعر كأس القهوة، أجابها "50" ليرة، أخرجتها من حقيبتها، دفعتها له وتناولت قهوتها، نظر في وجهها، قال طيّب الله خاطرك كما جبرتي بخاطري، فأحفادي ينتظرون الخبز والبندورة والخيار.

سألته وأين والدهم، رمقها بنظرة طويلة، تنهد بعمق، وأجاب بصوت مخنوق "رحل.. رحل ولن يعود"، ومضى ينادي بصوت مخنوق "قهوة قهوة".

"رحل ولن يعود"، كذلك فعل أخواها وزوجها.. رحلوا ولن يعودوا، عادت بذاكرتها إلى اليوم الذي حمل زوجها بندقيته وذهب بعد أن ودعها، وهمس في إذنها "ربما لن أراك مرّة أخرى، لن يترك منّا بشار الأسد أحداً، أوصيك بوالدتي ووالدي خيراً فأنتِ آخر من تبقى لهم".. استفاقت من شرودها على صوت طفل ينادي بصوت منخفض "من مال الله".

تلفتت حولها خوفاً من أن يكون أحدهم قد سمع صوت أفكارها، أو تمكن من قراءتها.

رأت طفلاً يدفع كرسياً متحركاً يجلس عليه شاب، كان واضحاً من نظرته الشاردة وقسمات وجهه أنه عاجز عن النطق والحركة برأسه المتدلي باتجاه يمين الكرسي، وقدميه الناحلتين البارزتين من تحت غطاء قذر بشكل مقصود ليراه أهل الخير.

ألح الطفل بطلبه "الله يخليلك أهلك ويحميلك اياهن نحنا ما عنا خبز بالبيت".

سألته عن الرجل الذي يدفعه، أجاب بانكسار إنه والدي، كان جندياً احتياطياً، وقد أصيب في رقبته بطلق ناري منذ عامين في ريف اللاذقية.

فكرت بتقديم مبلغ مالي له ولكنّها تذكّرت أنها لا تملك أكثر من أجرة الطريق، وستضطر إلى الاستدانة من أجل بقية الشهر الذي لم ينقضي منه سوى "10" أيام.

تحركت مبتعدة عن الطفل ووالده بينما تحتبس دمعاً كاد ينهمر.

وقع نظرها على بائع كعك متوسط العمر يحمل طبقاً على رأسه، تفوح منه رائحة ذكية شهية تشبه رائحة خبز التنور، تغلغلت الرائحة في أنفها وجعلت لعابها يسيل، تذكّرت أنّها لم تذق طعاماً هذا اليوم، لم تتمكّن من شراء ما تسدّ به رمقها لقلّة ما تملكه من مال، أشاحت بوجهها متجاهلة صوت معدتها، وبدأت تبحث بعينيها عن طوق نجاة يقلها إلى قريتها التي تبعد حوالي "40" كم عن مدينة طرطوس.

جاءها صوت مألوف لديها، يناديها من خلفها "سيدة رشا.. سيدة رشا.. حجزت لك مقعداً في السيارة، ألن تذهبي؟".

التفت إليه بلهفة، وكما توقعت رأت ذلك السائق الذي يحاول مغازلتها كلّما ركبت في سيارته العامة.
 
أجابته "نعم.. نعم.. شكراً لك"، توجّهت برفقته إلى السيارة، وجدتها ممتلئة بكاملها مع تواجد راكب زائد في كل مقعد، قال لها إنّ مكانك محفوظ في الأمام.
 
نظرت إلى المقعد الأمامي وجدت امرأة متوسطة العمر.

طلب السائق منها أن تجلس بقربها.

تحرّكت السيارة متثاقلة بحملها على طريق جبلي وعر.

وصلت إلى قرب منزلها بعد حوالي الساعة، كانت آخر الركاب لأن منزلها يقع في أطراف "دريكيش"، وأصرّ السائق على توصيلها.

لم يغازلها هذه المرة وعندما توقف أمام منزلها أخرجت آخر ما تبقى من نقودها لتناوله أجرته.

أمسك يدها وقال لها "اعتبري الأجر واصل، وأقترح عليك أن تكوني ضيفة سيارتي يومياً في الذهاب والإياب مجاناً".

 سحبت يدها من يده، وقالت "ماذا تريد مقابل ذلك". أجاب "صداقتك". أجابت "مع السلامة". ومضت باتجاه باب منزلها.

توقّفت.. رجعت خطوة إلى الوراء، استدارت بوجهها إلى الخلف، وقالت له: "موافقة".

قال لها: "هل أعتبر نفسي معزوماً على فنجان قهوة في سهرة هذا اليوم". قالت "أهلاً وسهلاً".

شكرها ومضى بسيارته، بصقت على الأرض وهمهمت شاتمة الأسد ونظامه وحظها المتعثر، وقالت لنفسها "لم يعد لدي ما أخسره".

ترك تعليق

التعليق