"حارة الديارنة".. اللهاث طويلاً، للعيش في "نقطة أمان"


شكل منتصف العام الفائت فرصة سانحة لمجموعتين من أبناء مدينة داريا كي يعيدوا شيئاً من تفاصيل مجتمعهم المحافظ، المنغلق على نفسه، المائل إلى العزلة والغوص في تفاصيل ما بعد القرية. توزعت هاتان المجموعتان في منطقتين متباعدتين في المسافة وإن كانت القلوب جميعها تتلاقى في هوى هذا المجتمع المنشود.

كنت ضمن المجموعة التي اختارت الإقامة في مدينة الفوعة مع العشرات من أبناء مدينتي. البلدة التي أخليت من سكانها الشيعة ضمن إحدى صفقات البازار السياسي الدولي. بدت مكاناً جيداً للعيش. في أحد القطاعات تجمع الديارنة. بيوتهم متراصة إلى بعضها. ومتاجرهم ومحلاتهم الحرفية تمتد على صف واحد منذ بداية الطريق الرئيسي وحتى السوق. تبين أن إعادة خلق مجتمع مصغر عن مجتمع داريا أمر ممكن وجدير بالمحاولة.

في نفس التوقيت (منتصف 2018) كان أحد معارفي من أوائل من دخلوا إلى مدينة داريا على إثر سماح النظام للأهالي بعودة تدريجية بطيئة جداً. في القطاع الذي يمتد بين ساحة شريدي ودوار المدينة الرئيسي التمس العائدون فرصة سانحة لإحياء مجتمع داريا أيضاً. يقول قريبي: "نحن قلة ولكننا نعيش في راحة تامة مع بعضنا". يسهر كل ليلة عند جيرانه؛ يحتسون الشاي والقهوة ويلعبون بورق الشدة. يغيب الحديث السياسي بالطبع، فالمنطقة تعيش في قبضة النظام. لكن الحكايات القديمة حول داريا القديمة، داريا المحافظة، والمنغلقة على أبنائها -على الرغم من كونها مدينة كبيرة تضم قرابة 400 ألف نسمة ومتاخمة للعاصمة- لا تنتهي.

في الفوعة، نكرر نفس الأسطوانة لكن في بيوت إدلبية غادرها سكانها، وتحت حكم فصائلي لا يمارس رقابة أمنية كما يفعل النظام ولكنه يبتزنا بالبيوت الرديئة التي نقطن فيها فهو يطلب من بعضنا إخلاءها أو دفع إيجارات وكتابة عقود. حياتنا هانئة وآمنة وبعيدة عن صراعات الفصائل فيما بينها. سهراتنا طويلة أيضاً كما في داريا، ومشاورينا لا تعرف الليل من النهار. والحكايات التي نتناولها مع فنجان من القهوة أو عند مدفأة الحطب هي نفسها التي يمضغها الآخرون في داريا اليوم.

لا أعرف من هو الذي أوحى لأبناء مدينتي بمدى جمال العيش في عزلة عن العالم الخارحي. قبل الثورة كانت داريا عبارة عن محلات ومعارض موبيليا ومساحات شاسعة من كروم العنب وعدد كبير جداً من المساجد المكتظة بحفاظ القرآن يماثلها عدد كبير من المشايخ ذوي الشعبية العارمة بين الناس. الكثير من أهالي المدينة لا يعرفون ما يدور في بلدات قريبة ملاصقة لداريا مثل الجديدة وصحنايا والمعضمية. لولا دراستي الثانوية والجامعية التي قضيتها في دمشق لكنت جاهلاً اليوم بهذه العاصمة معتقداً أن حي المالكي يتموضع بالقرب من حي الميدان، وأن البرامكة ملاصقة لحي المهاجرين.

اليوم وبعد سنوات من التهجير والنزوح لم يخرج أبناء بلدتي من طباعهم العنيدة. في إدلب لم نهوى الاختلاط بأبناء المحافظة. تقتنص كل أسرتين أو ثلاثة فرصة استئجار منازل ملاصقة ليؤسسوا (حارة دارانية) حتى ولو كانت من منزلين أو ثلاثة.

في مناطق نزوحهم بدمشق وريفها صنع أبناء مدينتي نفس الشيء. كناكر وجديدة وصحنايا كانت مليئة بهم. يتجمعون قرب بعضهم. ويتسوقون من المتاجر التي افتتحوها في مناطق النزوح. في جديدة عرطوز أصبح لدينا حارة كاملة يطلق عليها سكان المنطقة الأصليون "حارة الديارنة".

لإسكات الناس ومنعهم من التذمر بعد مشاهدة بيوتهم المدمرة والمسروقة، لم يجد النظام أفضل من البدء بإعادة إعمار بعض المساجد إضافة للثانوية الشرعية. المسألة بسيطة.. نعمل على تأهيل مسجدين وثانوية لها رمزية دينية كبيرة ونأتي بالشيخين "أبو عاطف غباش"  و"شمس الدين خولاني" -وهما شيخان يمتلكان قاعدة شعبية كبيرة- وينطلق وراءنا السكان.

في الفوعة يبحث السكان عن مشايخ من هذا النوع. لا يسمح لهم عبوس وتجهم السلفية الجهادية بالعثور على شيخ ينتمي لنفس النموذج الذي اعتادوا عليه سابقاً. لذلك يكثرون من التذمر وانتقاد مشايخ داريا السابقين الذين لم يبق منهم أحد في داريا خلال فترة الحصار.

يقاوم أبناء داريا ليتمكنوا من تحقيق هدفين متوازيين. يمنعهم النظام من بناء بيوتهم المهدمة في داريا فيبنونها في الخفاء ويتعرضون لمخالفات الهدم. يضغط عليهم فيلق الشام في الفوعة ليرحلوا عن بيوتهم المؤقتة على الرغم من أن عدداً كبيراً منهم أنفق أموالاً طائلة لإعمارها، فيخرجون في مظاهرات ويحاصرون مقر الفيلق.

يتواصل الجميع فيما بينهم باستمرار. ينتظر من عادوا إلى داريا ساعة التئام الشمل بفارغ الصبر. ندرك أن مجتمعنا الجديد في الفوعة مرحلة مؤقتة لكننا نخشى أن تطول.. فالشوق للوطن الأول لا يتوقف في وجداننا.

ترك تعليق

التعليق