مهنة منسية.. "قص الأثر"، رادار بدائي لتعقب المجرمين في البوادي


اشتهر البدو بقص الأثر أو (القيافة)، ولهم في ذلك مهارة عجيبة لا يكاد يجاريهم فيها أحد، فيكشفون كثيراً من الحوادث الغامضة عن طريق قص الأثر، وتتبِّع آثار الأقدام، والعلامات الأرضية لمسافات طويلة. وقد أثارت هذه الميزة لدى البدو أحد المستشرقين الذين رافقوا أبناء البادية في رحلاتهم ومرابعهم فكتب يقول: "إني جد مندهش من شدة معرفتهم للأثر.. فهم يعرفون آثار أقدام جماعتهم ومعارفهم.. ونياقهم ونسائهم.. والمرأة الحامل والمرأة البكر. والناقة المريضة والصاحية.. وآثار حيوانات البادية.. وتاريخ مرورها على الأرض". ويضيف قائلاً: "إن أسلوب معرفة البصمات المتبع في الغرب لا يبدو شيئاً أمام هذه المقدرة العجيبة".

وقص الأثر مهنة يمارسها أناس على دراية كبيرة في تضاريس الصحراء وخبرة في اقتفاء الأثر، يقتفون أثر الضالين أو الجُناة الهاربين في الصحراء الشاسعة ويستطيعون التفريق بين خطوات الرجل وخطوات المرأة حين يسيران حافيين بل يستطيعون التمييز بين أثر قدم المرأة الحامل من طبعته على التراب ومثله أثر خف الجمل فيميزونه عن أثر خف الناقة الحامل، وهم يستدلون على كثير من الأمور الخافية وذلك من بعض الظواهر التي يشاهدونها وهم يسيرون في البادية مما يصعب على غيرهم الاستدلال بها، كأن يرى أحدهم مثلاً طائراً قد مرَّ من فوق كثيب أو هضبة فيتخذ مع قومه الحيطة تحسباً من أن يكون هناك قوم غزاة أو أعداء مروا من خلف تلك الهضبة أو ذلك الكثيب فهيَّجوا الطائر من مجثمه.


 ويرى الباحث في شؤون البدو "حسن خضير المقبل" أن علم البدوي في معرفة الأثر يكاد يكون شيئاً من التنبؤ. ويستطيع قصاصو الأثر من البدو-حسب قوله- معرفة اتجاه خط سير الأقدام لاسيما أن بعض آثار الأقدام قد تختفي معالمها بفعل عوامل التعرية، ولكن ونظراً لخبرتهم الطويلة في التعامل مع الصحراء بشكل مستمر يستطيعون تحليل الأثر ومعرفة الاتجاه الذي سار فيه صاحبه. وتُعد هذه المهنة بالنسبة للبدوي من أشرف مهن الصحراء حيث يُطلق على من يزاولها لقب الرجل الأمين لأنه أمين في عمله وهو يساعد العدالة في الوصول إلى هدفها.

ولقص الأثر أسرار كثيرة لا يعرفها إلا أبناء الصحراء ومن ذلك أن القَصَّاص يمعن النظر إلى طبعة القدم سواء أكانت لإنسان أم لحيوان ويعرف إن كان بها اعوجاج أو حنف، وعندما يلاحظ القَصَّاص عنق القدم اليسرى عن القدم اليمنى يوقن بأن صاحب القدم – إنساناً كان أم حيواناً يبصر بعينه اليسرى فقط، ولا يجد قصَّاص الأثر صعوبة في معرفة أثر الحيوانات بأنواعها وتشخيصها. ولمعرفة أثر الناقة من الجمل يلاحظ القصَّاص أن خف الجمل ينهب الأرض نهباً بينما خف الناقة يلامس الأرض بلطف، وتكون خطوة الجمل الذي يحمل أثقالاً على ظهره عميقة ومتقاربة في حين أن الجمل الذي لا يحمل ثقلاً يكون أثر خطواته واسعاً وقدمه على سطح الأرض. وإذا تبيَّن أثر لجمل ظهرت فيه الأرجل الأمامية مع الخلفية فهذا الجمل يجري وهو يحمل شيئاً، أما إذا كانت خطواته منتظمة فهذا يدل على أن الجمل لا يحمل شيئاً.


وتُروى في مجال قص الأثر عند البدو الكثير من الطرائف ومن ذلك حكاية رجل كان يسير في الصحراء برفقة ابنته فصادف أن رأى أمامه جُرفاً فعبره قفزاً وتبعته ابنته في القفز فلاحظ الرجل أن خطوات ابنته قد اختلفت واتسعت بعد أن قفزت الجرف فأدرك بحدس وخبرة أبناء الصحراء أن غشاء بكارة ابنته قد تمزق بسبب القفزة فعاد أدراجه إلى مضارب قومه وأتى ببعض أبناء قبيلته إلى الموضع ليُشهِدَهم على ذلك ودليله اختلاف خطوات الفتاة قبل القفزة وبعدها.

وبدوره، روى الباحث المحامي "فادي سلايمة" لـ"اقتصاد" أن والد جده "محمود بن أحمد بن مصطفى" المولود في قرية الشجرة قضاء طبريا في العهد العثماني عام 1881 عمل في مجال قص الأثر، ويتناقل أهل الشجرة القصص والروايات عن شخصية محمود المصطفى البارزة التي ظهرت في قريتهم والتي امتازت بالحنكة والحكمة والقوة والشجاعة والسمعة الحسنة، بحيث أصبحت هذه الشخصية ملكاً وتراثاً للقرية ككل.

ويُروى عنه أنه "اصطاد خمسة ضباع في ليلة واحدة"، وكان لديه فوق ذلك-كما يقول- إلمام بالأنواء ومواقع النجوم والسيَّارات وتغير الطقس وهو ما يساعده على معرفة كيف يسير في البوادي دون أن يضل طريقه، وكيف ينظم أوقات انتجاعه وراء الماء والكلأ.

 وفي عام 1948 نزح محمود المصطفى إلى سوريا عن طريق لبنان. وفي عام 1971 توفي في مدينة حمص عن عمر ناهز الـ 90 عاماً.

وأشار سلايمة إلى أن قص الأثر كان يعتمد في قديم الزمان للاستدلال على المجرمين. وحتى زمن قريب تميز العرب بعلم "قَص الأثر" دون غيرهم من الشعوب منذ القدم (ربما يشابههم في ذلك إلى حد ما الهنود الحمر).


 وأردف أن موضوع قص الأثر ساهم في حل مشاكل كثيرة واستتباب الأمن في المجتمعات القديمة، ومنع حدوث المشاجرات والاشتباكات، من خلال الكشف عن أسرار الجرائم أو السرقات وتتبع أثر المجرمين أو اللصوص والكشف عنهم أو تتبع أثر الحيوانات الضائعة.

وحتى الآن ما يزال الكثيرون في المجتمعات الشعبية يلجؤون إلى قصاصي الأثر  للمساعدة في الكشف عن غموض الكثير من الحوادث الغامضة، حتى أن السلطات كانت تستعين بقص الأثر كبينة أو قرينة وما تزال بعض الدول تعتمد على قصاصي الأثر في الكشف عن الجرائم مثل السودان وموريتانيا.

 وختم محدثنا أن قصّاص الأثر هو بمثابة رادار بدائي وجهاز تعقب وتنصت ودليل إرشاد للبحث عن الغزاة أو الخاطفين. إنه ضرورة أمنية بدأت كضرورة حياتية في البحث عن صيد أو طريدة أو فريسة أو قافلة مرت. إنه تتبع هارب أو تائه في بلاد بلا شوارع ولا مواقع ولا خارطة.

ترك تعليق

التعليق