تجارة الكمأة في سوريا.. من القاتل؟


في كل عام يفقد عشرات السوريين أرواحهم خلال البحث عن ثمرة الكمأة في البادية السورية، الممتدة بين ريفي حلب وحماة، فمنهم من يقضي بانفجار الألغام التي يُتهم تنظيم "الدولة الإسلامية" بزرعها في السنوات السابقة، ومنهم من يقضي بالقتل من قبل مجموعات مسلحة، غالباً ما يتم توجيه الاتهام فيها لعناصر تنظيم "الدولة"، والبعض الآخر يقول إن الميليشيات الإيرانية وميليشا نظام الأسد هي من تقتل جامعي الكمأة، نظراً للمردود المادي المرتفع الذي تحققه هذه الثمرة عند بيعها، حيث يتراوح سعر الكيلو بين 5 دولارات وقد يصل حتى 15 دولاراً وأحيان 25 دولاراً، بحسب حجمها وجودتها.

ورغم كل حوادث القتل التي يتعرض لها جامعو الكمأة في كل عام خلال موسمها الممتد من شهر شباط وحتى شهر نيسان، إلا أن ذلك لم يثني الكثير من أهالي القرى المحيطة بالبادية من المغامرة بأرواحهم، بحثاً عن هذه الثمرة الثمينة، إذ تشير الإحصائيات إلى أن أكثر من 135 شخصاً لقوا حتفهم في الشهر الماضي، وسط العديد من إشارات الاستفهام حول هوية القاتل وهدفه، حيث يؤكد العديد من أبناء المنطقة وذوي الضحايا، أن من يسيطر على البادية القريبة من محافظة حماة، هو فرقة للـ "الجيش السوري" وعناصر تابعين لميليشيات إيرانية متعددة، ومع ذلك تصر وسائل الإعلام التابعة للنظام ومعها وسائل الإعلام العالمية على اتهام عناصر تنظيم "الدولة" بهذه الجرائم، دون الاستناد إلى أي معلومة موثوقة، بما في ذلك الأخذ برأي ذوي الضحايا، الذين أغلبهم من العشائر العربية، ويقولون إنهم يعرفون غريمهم بالضبط.

في هذا التقرير حاول موقع "اقتصاد" وعبر متعاونين في المناطق القريبة من البادية السورية، أن يقف على حقيقة هذا الموضوع وحجمه، ليس بحثاً عن هوية القاتل فحسب، وإنما معرفة هذه التجارة والأرباح التي تحققها، والتي تدفع الأهالي إلى حد المغامرة بأرواحهم من أجلها..

لقمة مغمسة بالدماء 

يقول سعيد، وهو من أبناء منطقة "السعن" في ريف حماة القريب من البادية، إن أهالي المنطقة في أغلبهم يعتاشون منذ عشرات السنين على جمع الكمأة في موسمها، وبيعها في أسواق مدينة حماة وحلب، بالإضافة إلى تهريبها إلى دول الخليج، حيث يباع الكيلو هناك بعدة أضعاف ثمنه عما يباع به في الأسواق السورية.

ويتابع: "الكمأة هي مصدر رزق حقيقي للكثير من أبناء المنطقة، حيث يمكن للأسرة أن تحقق منها إيرادات تكفي لعام كامل في بعض الأحيان"، مضيفاً أنه في العام الماضي استطاع وأفراد أسرته أن يجمع أكثر من 100 كيلو كمأة، باعها بسعر وسطي 10 دولار للكيلو، أي أنه ربح نحو ألف دولار، وهو مبلغ كبير بحسب قوله، وخصوصاً في هذه الظروف المعاشية الصعبة التي يعاني منها الناس في سوريا.

ويضيف سعيد، أنه قبل عامين فقدَ أخاه خلال موسم جمع الكماة، الذي لقي حتفه جراء انفجار لغم أرضي، مشيراً إلى أن ذلك الانفجار تسبب أيضاً بجرح آخرين، بعضهم فقدَ أجزاء من جسده.

ويقول، إن الألغام منتشرة بكثرة في البادية، وبعض الناس لديهم أجهزة للكشف عنها، مضيفاً بأن الألغام ليست هي السبب الرئيسي دائماً لوقوع ضحايا، وإنما العصابات المسلحة التي تباغت جامعي الكمأة وتسرق محصولهم بعد أن تقتلهم..

ويتساءل سعيد: "لماذا يقتلونهم..؟ يستطيعون سرقة ما جمعوه من كمأة وتركهم أحياء".. ويرى أن السر يكمن في هذا الأمر، لأنه على ما يبدو أن الهدف ليس السرقة وإنما القتل.. ثم يتساءل من جديد: "من هؤلاء الذين لديهم مصلحة في هذا القتل المجاني..؟".

من هو القاتل..؟

يرفض سعيد توجيه الاتهام لأي طرف، لكن "جاسر"، من أبناء ريف حلب الجنوبي، يرى أن صاحب المصلحة الحقيقية في عمليات القتل هذه هم الميليشيات الإيرانية وقوات النظام السوري المتمركزة في أكثر من منطقة في البادية، ولديهم دوريات تجوبها في كل الاتجاهات، مشيراً إلى أن السرقة هي الهدف الرئيسي.

وأشار جاسر إلى أنه قبل أيام تم سرقة 1000 رأس غنم في بادية الرقة من رعاة بعد قتلهم، وقد تم إبلاغ سلطات النظام بذلك دون أن تحرك ساكناً، متسائلاً: "هل من المعقول أن هذه السلطات لم تستطع رؤية 1000 رأس غنم، والتي تحتاج لعدة أيام حتى تخرج من البادية، لولا أنها شريكة بهذه السرقة أو أنها طرف فيها..؟!".

لماذا لا يدافعون عن أنفسهم..؟

مع تكرار حوادث القتل الجماعي في كل موسم لجمع الكمأة، يتبادر للذهن سؤال: لماذا لا يحمي هؤلاء أنفسهم، ومعظمهم من أبناء العشائر العربية، التي تمتلك السلاح..؟

يقول علي، وهو من أبناء عشائر المنطقة التي فقدت الكثير من أبنائها خلال موسم الكمأة الحالي، إن البادية منطقة منبسطة ومفتوحة، لذلك يسهل محاصرة جامعي الكماة من بعيد واصطيادهم حتى لو كان معهم قوة مسلحة تحميهم.

وهو يرى أن أحد أسباب القتل التي يتعرض لها جامعو الكمأة هو الخوف من السلاح الذي يحملونه.

ويؤكد "علي" هو الآخر، أن القتل هدفه السرقة بالدرجة الأولى، مشيراً إلى أن هناك مجموعات مسلحة تتابع جامعي الكمأة على مدى عدة أيام، وعندما يدركون أنهم جنوا محصولاً جيداً، يقومون بقتلهم وسرقة المحصول.

بيع الكمأة في حلب 

في سوق الخضرة في "باب جنين" في مدينة حلب، تشاهد عدداً قليلاً من الأشخاص يجلسون على كرسي صغير ويضعون بضعة ثمار من الكمأة على سحارة بغرض البيع.

السعر قابل للتفاوض، لكنه لا يقل عن 40 ألف ليرة للكيلو.

يسأل المتعاون مع موقع "اقتصاد" أحد الباعة وقد لفت انتباهه أنه بساق واحدة ويد مبتورة من الساعد: "هل تعرضت لانفجار لغم أرضي وأنت تجمع الكمأة..؟".

يجيب: "نعم".

يسأله من جديد: "هل يستحق الأمر كل هذه المغامرة..؟".

لا يجيب البائع بكلمات واضحة، لكن يقول المتعاون إنه على ما يبدو أن الناس لم يعد يهمها المغامرة بأرواحها مقابل تأمين قوت يوم عيالها.

ويضيف هذا المتعاون، أنه لاحظ وجود أكثر من بائع كمأة في سوق "باب جنين" وبالقرب من "باب الفرج" بحلب، لا يعرضون سوى حبات قليلة للبيع، لا يتجاوز عددها الخمسة، إلا أنه تبين لاحقاً أن هؤلاء يخفون كميات كبيرة في أماكن أخرى، خوفاً من سرقتها، ولديهم أنواع كثيرة، بعضها يصل سعر الكيلو منه إلى أكثر من 150 ألف ليرة، بحسب طلب الزبون.

ترك تعليق

التعليق