موسم الهجرة من الوطن


إن المبلغ الذي يدفعه أي سوري اليوم للهجرة غير الشرعية من بلده إلى إحدى الدول الأوروبية لا يقل عن 10 آلاف دولار بالمتوسط، وهو مبلغ محترم داخل سوريا ويعتبر كبيراً جداً بمقاييس الدخل الضئيلة المتداولة، لكن هذا يعني من جهة ثانية، أن أحد أبرز أسباب ودوافع الهجرة من البلد، ليس الفقر بالدرجة الأولى، وإنما ظروفاً أخرى تتعلق بطبيعة الحياة داخل البلد، والتي باتت تخلو من أي أمل بتحسنها سواء على المدى القريب أو البعيد.

الميسورون هم من يخططون للهجرة ويقومون بها، أو لنقل من تبقى لديه بعض الأملاك ويخشى أن يصل لمرحلة أن يبيعها من أجل أن يأكل ويشرب فقط، وهي مرحلة محدودة زمنياً، فلا بد أن ينتهي المال بعدها، لهذا فهو يسعى لاستثماره للبدء بحياة جديدة في بلد آخر، يضمن له العيش بكرامة وعدم الخوف من المستقبل.

يقول أحد الأصدقاء داخل سوريا، إنه مع بدء شهر آذار وحلول الدفء، بدأ حديث الهجرة من البلد يعلو من جديد، ففي كل مجلس تنضم إليه، لا بد أن يكون الموضوع الطاغي هو الهجرة، وكيف أن فلان الذي هاجر أولاده قبل عامين، بعد أن باع أغلب أملاكه، أصبحوا الآن يعيلونه وأصبحت أموره على ما يرام، وهو بصدد استرجاع هذه الأملاك، بل والزيادة عليها.

أي أن الهجرة في نظر السوريين في الداخل، هي استثمار قصير الأجل.. وهذا الكلام غير صحيح على الإطلاق، فلكي تستقر أمور اللاجئ في أوروبا، ويصبح قادراً على توفير الدخل وإعالة أسرته بالنزر اليسير، أي مصروف الحياة الشهرية فقط، يحتاج الأمر إلى أكثر من سنتين، وربما إلى خمس سنوات وأكثر، بحسب ظروف البلد الأوروبي الذي لجأ إليه، أما الحديث عن ثروات سوف يجنيها اللاجئ من عمله وراتبه الشهري، فهو وهم كبير، فبالكاد يكفي راتب العمل في أوروبا لمتطلبات الحياة المعاشية، والـ 100 يورو التي سوف يرسلها إلى أهله في سوريا كل شهر ليست فائضاً عن الحاجة، وإنما سوف تكون على حساب جزء من متطلباته.

السوريون الذين وصلوا إلى أوروبا ليسوا في أحسن حال، وهم لا يعيشون الرفاهية التي يتخيلها البعض ممن بقوا داخل سوريا، لكنهم على الأقل يشعرون بالاستقرار وأنهم في بلاد لن يجوعوا فيها، أو لن يجدوا أنفسهم في العراء بلا مأوى، وهي شروط أساسية لأي إنسان لكي يكون قادراً على الحياة والاستمرار فيها.

دعونا نقر بأن ما يحرك أفكار الهجرة وليس أسبابها، هو الوضع الاقتصادي المزري بالدرجة الأولى، لكن من يهاجرون بالفعل هم من بقي من الطبقة المتوسطة، وتكاليف الهجرة الباهظة هي التي تقول هذا الأمر، وهذا يشير إلى أنه سوف يبقى في سوريا، طبقتان: فقيرة جداً لا تملك تكاليف الهجرة وهي معرضة للجوع اليوم، وطبقة غنية جداً مستفيدة من مزايا السلطة التي تقدمها لها، وتعيش في ظروف خاصة وكأنها خارج البلد.. هذا الواقع هو أخطر ما يتعرض له أي بلد في العالم، لأن ذلك يعني تكاثر الجريمة والأمراض والجهل، وكل ما من شأنه أن يقض مضاجع استقرار المجتمع.. وهذا لم يعد حديثاً في الفراغ، وإنما أصبح أمراً واقعاً ويشعر به كل سوري بقي في سوريا.

ترك تعليق

التعليق