طرطوس كـ "عاصمة للأسد"

تُطرح نظرية تدعمها تسريبات من مصادر مقرّبة من النظام، أن بشار الأسد يفكر جدياً في طرطوس كعاصمة لـ "دويلته المأمولة"، كخيار بديل في حال فشل في الاحتفاظ بدمشق.

ويدعم هذه النظرية وقائع تجعل من طرطوس أكثر أمناً كعاصمة للـ "العلويين"، مقارنة باللاذقية أو حمص، من أبرزها، أن طرطوس ذات غالبية ديمغرافية علوية.

طرطوس "الآمنة"

وتعد طرطوس المحافظة السورية الوحيدة، التي يشكل فيها السُنة أقلية، مقارنة بتواجدهم في حمص أو اللاذقية، اللتين، رغم التهجير والحرب القاسية عليهم، ما يزال للسُنة فيهما تواجد ديمغرافي يصعب استيعابه "علوياً".

ناهيك عن ذلك، فإن طرطوس هي المدينة الأكثر أمناً للحاضنة الشعبية الموالية للنظام، مقارنة باللاذقية أو حمص، أو حتى دمشق. فالمدن الأخيرة، تتواجد حواضن شعبية ثائرة، وقوى معارضة مسلحة، إما في داخلها، أو في الأرياف القريبة جداً منها. أما طرطوس، فإن بانياس وتلكلخ، كانتا المنطقتين الوحيدتين المثيرتين للقلق في ريف طرطوس، وفي ريف حمص القريب جداً منها.. وقد تم سحق الحراك الثوري فيهما بقوة.

وفيما لا تزال الأرياف الشمالية للاذقية وحمص، والشرقية لدمشق، منغصات خطرة لأمن البيئة الموالية للنظام، تزول أية منغصات فعلية في طرطوس. ناهيك عن دور القاعدة البحرية الروسية الشهيرة، المتواجدة فيها، في منح "العلويين" شعوراً أكبر بالأمن.

بروباغندا أم حقائق؟

وفي الآونة الأخيرة، أشاع النظام بروباغندا إعلامية عارمة، عن مساعٍ لتعزيز اقتصاد طرطوس، وتحقيق نهضة فيها.

وقد دعّمت هذه البروباغندا بعض التسريبات التي تحدثت عن توجيهات من بشار الأسد شخصياً، بتوجيه جزء كبير من الاستثمارات إلى المدينة.

لذا، دعنا نتعرّف على مدى دقّة هذه البروباغندا؟، وهل حقاً، يجري العمل حثيثاً لتحويل طرطوس إلى مدينة قوية اقتصادياً؟

قضية واحدة تنسف النظرية برمتها

في إطار البحث، يمكن التوقف عند قضية واحدة كافية لتنسف هذه النظرية، أو على الأقل، لتؤكد بأن النظام لا يملك الإمكانيات التي تخوله لتحقيقها، هذا إن امتلك الإرادة والجدية أصلاً.

قضية توسيع المدينة الصناعية الوحيدة المتواجدة جنوب المدينة، والتي تعاني من مشكلات جمّة، دفعت كبار المستثمرين الحلبيين النازحين للمدينة، للإدبار عن الاستثمار فيها.

المنطقة توجد في جنوب شرق المدينة، تبعد عن مركز المدينة 7 كم، هي المنطقة الصناعية الوحيدة المستملكة والمستثمرة، تبلغ مساحتها الإجمالية 98 هكتاراً، فيها1110 مقاسم موزعة على كل الصناعات والمهن الخاصة بالمرسوم التنظيمي رقم 2680 لعام 1977، وتمت إضافة 235 مقسماً جديداً بعد تعديل التنظيم في المنطقة الخضراء- أملاك دولة.

وهناك مطالبات بتوسيع هذه المنطقة الصناعية، أو تأسيس واحدة ثانية، خاصة للحرفيين، لكن هناك مشكلات كبيرة، بعضها يعود إلى أكثر من 5 سنوات، يُعيق أي احتمال لتحقيق هذه المطالب.

صرف صحي ونفايات متطايرة وقوارض تجتاح المدينة

ورغم المطالبات بتوسيع المنطقة الصناعية، لا يوجد إقبال من الصناعيين والحرفيين على الاكتتاب في المقاسم الجديدة المُعلنة في المنطقة، بعد تغيير المخطط التنظيمي للمدينة مؤخراً، وذلك لأسباب عديدة، أبرزها، المشكلات في البنية التحتية التي تعاني منها المنطقة الصناعية القائمة حالياً، حيث تطفح مياه الصرف الصحي، ولا يتم ترحيل النفايات بسبب نقص الأيدي العاملة، ناهيك عن شروط ترخيص المنشآت الصناعية المُعقدة، والتي تدفع الصناعيين للإدبار عن العمل داخل المنطقة الصناعية، إضافة إلى نقص الأيدي العاملة الكفوءة.

لنتناول مشكلات المنطقة الصناعية القائمة حالياً، والتي تعاني من نفس المشكلات، منذ أكثر من خمس سنوات، دون أن تظهر السلطات الحكومية التابعة للنظام في طرطوس أي جديّة في علاجها.

مشكلة الصرف الصحي، أبرزها، فالصرف يدخل إلى المنشآت الصناعية والحرفية في المدينة، والحديث عن محطة ترحيل، جارٍ منذ سنوات، دون أي إجراءات عملية. وبسبب هذه المشكلة، تنتشر الحشرات والقوارض، وحين تشكل السيول في فصل الشتاء، يدخل الصرف الصحي برفقة النفايات غير المُرحّلة، إلى المنشآت، الأمر الذي يضطر أصحاب هذه المنشآت للجوء إلى طرق بدائية لحماية منشآتهم، كالحواجز والألواح الخشبية.

النفايات تتراكم في أطراف المدينة الصناعية، وتنقل الرياح بعض النفايات الخفيفة إلى داخل المنشآت، دون أية إجراءات جادة من السلطات الرسمية لإنهاء هذه المعاناة في مدينة، من المفترض أنها مخصصة للصناعة وبالتالي، من المفترض أن تحظى ببنية تحتية مناسبة لذلك!

إدبار "الاستثمار الصناعي الحلبي"

وقد راهن الكثير من المسؤولين في طرطوس على انتقال بعض رؤوس الأموال والصناعيين الحلبيين النازحين إلى طرطوس، واعتبروا ذلك خطوة قد تنعش الاستثمار في المدينة، لكن، باستثناء حركة العقارات والنشاط في مجال التجارة والبيع بالتجزئة، الناتجة عن تواجد النازحين الممتلئين مالياً في طرطوس، لا يبدو أن هناك أي تقدم على صعيد الصناعة، بسبب إدراك الحلبيين لمشكلات البنية التحتية وتعقيدات الاستثمار الروتينية في المدينة الصناعية بطرطوس.

النظام لا يعدّل شروط الترخيص

في جانب مهم، يؤكد عدم جديّة حكومة النظام في دفع طرطوس باتجاه النهوض الصناعي، يكفي أن نعلم، أن الحرفيين في طرطوس يطالبون منذ سنوات بتعديل شروط الترخيص في المنطقة الصناعية، والتي تتطلب توافر مساحة 4000 م2 لإقامة المنشأة، بينما أغلب الصناعات والحرف لا تحتاج أكثر من 1000 م2 مع الوجائب.. ورغم ذلك، لم تعدل السلطات الرسمية شروط الترخيص، حتى الآن.

الاستثمار الصناعي في طرطوس.. بلغة الأرقام

وبالرجوع إلى الأرقام التي أعلنتها جهات رسمية، حول حجم الاستثمار في المدينة الصناعية بطرطوس، نلاحظ أنها أرقام، يمكن وصفها بأنها "ضئيلة جداً"، ناهيك عن أن حجم الاستثمار في المدينة الصناعية في طرطوس تراجع بنسبة تفوق الـ 50%، في الربع الأول من العام الجاري، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.

وفي التفاصيل، شهد الربع الأول من العام الجاري ترخيص 23 منشأة حرفية جديدة في المدينة الصناعية بطرطوس، برأسمال يقدر بحوالي 90 ألف دولار، وفّرت 100 فرصة عمل. وهذا رقم "ضئيل جداً"، لمدينة من المفترض أن تمثّل الصناعة في "عاصمة دولة".

مع الإشارة إلى أنه في الربع الأول من العام الماضي، كان عدد المنشآت المرخصة 84 منشأة، برأسمال 187 ألف دولار، وفّرت 133 فرصة عمل.. أي أن نسبة الاستثمار في المدينة الصناعية بطرطوس تراجعت أكثر من 50% خلال عام، وهو مؤشر على عدم صلاحية المدينة لجذب المستثمرين.

وبالعودة إلى الاستثمار الصناعي، بدلاً من الحرفي، نلاحظ أنه خلال كامل العام 2015، كان عدد المنشآت الصناعية المُرخصة، 56 منشأة، برأسمال لا يتجاوز الـ 700 ألف دولار، أي أن المنشآت جميعها من القياس الصغير جداً، بمعايير عالم الصناعة، بوسطي رأسمال للمنشأة الواحدة، حوالي 14 ألف دولار. فتصوّر قارئنا العزيز، ما هذه المنشأة الصناعية المُرخصة بحوالي 14 ألف دولار!

الطبيعة الجغرافية لطرطوس لا تتناسب مع الصناعة

عدا عن عدم جديّة سلطات النظام، التي تظهر في تعقيد شروط الترخيص الصناعي والحرفي، تظهر مشكلة معقدة أخرى تجعل من تأسيس استثمار صناعي ضخم في طرطوس أمراً عصيباً، وهي أن الملكيات في طرطوس صغيرة، وبالتالي، فإن تأمين مساحة مناسبة لمنشأة صناعية ضخمة، يتطلب الشراء من عدة مُلّاك.

وهو نفس السبب الذي يجعل مساعي التخطيط لإنشاء مدينة صناعية جديدة، أو توسيع تلك القائمة، معقداً، لأن تحقيق ذلك يتطلب استملاك مساحات واسعة من الأراضي من مُلاكها، الأمر الذي قد يُثير حنق الحاضنة الشعبية للنظام في طرطوس، ناهيك عن عدم توافر السيولة الكافية لشراء حجم كبير من الأراضي، مع تعدد مُلاكها، وغلاء سعر المتر الواحد.

يزيد على المشكلة السابقة، أخرى متعلقة بالطبيعة الجغرافية لطرطوس، التي تسودها الحراج وأراضي الاستثمار الزراعي، الأمر الذي يُعقّد مساعي تأسيس مساحات واسعة مناسبة للاستثمار الصناعي.

بروباغندا تسكين

وكخلاصة، حول قصة الاستثمار في المدينة الصناعية في طرطوس، تنقل وسائل إعلام موالية عزوف الصناعيين والحرفيين عن الاكتتاب على المقاسم الجديدة في المدينة، بدواعي عدم وجود السيولة لديهم، مشيرين إلى أن سعر المتر مرتفع للغاية، مع العلم بأن المحافظة سمحت بتقسيط المبلغ مدة عشر سنوات، بالتعاون مع الجهات المعنية، ورغم ذلك، وصفت وسائل إعلام موالية الإقبال على المقاسم الجديدة، بأنه "ضعيف".

وهكذا، لا يبدو أن طرطوس جاذبة للاستثمار الصناعي، ناهيك عن عدم توفر البنية التحتية المناسبة فيها، إلى جانب عدم قيام حكومة النظام بأية إجراءات جديّة لجذب المستثمرين للمدينة، من قبيل مثلاً، تعديل شروط الترخيص المُعقدة.

وبذلك، نستنتج أن الحديث عن تحويل طرطوس إلى مدينة جاذبة صناعياً، مجرد بروباغندا إعلامية يريد النظام منها تسكين الحاضنة الشعبية الموالية له هناك، بعد أن أثخنتها جراح الحرب المستمرة مع شركائهم في الوطن من السوريين.

فإذا علمنا أن طرطوس أكبر خزان بشري يعتمد عليه النظام لإمداد قواته بالشباب، وأنها المدينة التي خسرت أكبر عدد قتلى من الشباب "في سبيل حكم آل الأسد"، يمكن حينها أن نفهم لماذا يتحدث الإعلام الموالي عن توسيع المنشآت الصناعية في المدينة، لكنه لاحقاً يناقض نفسه بالأرقام التي تؤكد أن الاستثمار الصناعي والحرفي في المدينة، هزيل جداً، ورغم ذلك، فهو يتراجع أيضاً، وبنسب تتجاوز الـ 50%، في عام واحد.

في نهاية المطاف، لا يبدو أن النظام صادق في تحقيق نهضة صناعية لطرطوس، أو أنه، إن أحسنا الظن، عاجز عن تحقيق ذلك في الأفق المنظور.

ترك تعليق

التعليق