هل يختنق نظام الأسد اقتصادياً؟


لا يعتقد الخبير الاقتصادي السوري، الدكتور سمير سعيفان، أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، سيُوقّع قانون "سيزر"، الذي من المتوقع أن يخنق النظام السوري، أكثر، من الناحية الاقتصادية. لكنه يرى أن الأزمات المعيشية التي تُلمّ بمناطق سيطرة النظام قد تهدد استقرار ولاء الحاضنة الشعبية للنظام، إذ أنها ستربط بين استمراره وبين استمرار الأزمات.

الخبير الذي عمل لسنوات طويلة في مؤسسات بحثية تُعنى بالاقتصاد السوري، ذهب إلى أن روسيا وإيران لن تسمحا بسقوط نظام الأسد اقتصادياً، وإن كانتا ستقدمان مساعدات مشروطة له، تخدم تغولهما في مصادرة القرار منه.

كان "اقتصاد" و"زمان الوصل"، قد تعاونا في إجراء حوار مطوّل وتفصيلي، مع سمير سعيفان، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالدوحة، يتناول معظم الملفات المثيرة للجدل فيما يخص الاقتصاد السوري وآفاقه، في ضوء التحديات التي تواجه النظام بهذا الصدد.

وننشر فيما يلي الجزء الأول من هذا الحوار.


تتدهور الأوضاع المعيشية في سوريا، ربما بشكل غير مسبوق، حتى في أحلك أوقات الصراع المسلح، خلال السنوات الثماني الماضية.. ويربط فريق كبير من المراقبين، سواء المؤيدين للنظام، أو حتى المحايدين، هذا التدهور بإجراءات أمريكية جدية، لحصار نظام بشار الأسد، بالتزامن مع العقوبات المتصاعدة على إيران. ومن المرتقب أن يتحول "قانون سيزر" الخاص بمعاقبة أي جهة تتعاون اقتصادياً مع نظام الأسد، إلى قانون نافذ بعد توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عليه. فكيف ترى التطورات المرتقبة للمشهد المعيشي والخدمي في سوريا؟، هل يملك النظام وحلفاؤه الإيرانيون والروس، وسائل للتحايل على مسار العقوبات والحصار المتصاعد، وإيجاد بدائل لجلب المحروقات والمواد الغذائية المتناقصة إلى السوق الداخلية؟، أم تتفق مع من يتوقع أن تتدهور الأوضاع في سوريا إلى حالة لم يشهدها السوريون من قبل، ربما منذ أكثر من قرن، في عهد ما يُدعى بـ "السفربرلك"؟


أود التوضيح أولاً أن مستويات المعيشة لعموم السوريين محدودي الدخل والفقراء هي النتيجة الأولى للصراع المستمر منذ ثمان سنوات ونيف، لأن الصراع دمر عجلة الإنتاج وحول مصادر الدخل نحو تمويل آلة الحرب بدلاً من تدوير عجلات التنمية.

 كما أن العقوبات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والتي بدأت مع عقوبات الجامعة العربية في شهر تشرين الثاني 2011 مروراً بالعقوبات الأمريكية والأوروبية المستمرة حتى اليوم كلها تؤثر بشكل سلبي كبير على الموارد وعلى مستويات المعيشة.

تشمل هذه المعاناة الجزء الأكبر من الشعب السوري بمن فيهم الجزء الأكبر من العاملين في أجهزة النظام أيضاً وبمن فيهم الذين يدافعون عنه مقدمين حياتهم بدون مقابل، فهم من أبناء هذه الفئات الفقيرة، بينما أبناء النخب يبقون في مأمن ينعمون بحياتهم رغم الكوارث. والنظام اليوم يعجز عن مكافأة عائلات القتلى منهم، أو إعالة المعاقين بينهم، ويشكل هذا الأمر رافداً رئيسياً للغضب الكامن الذي يتم قمعه بقوة السلاح كي لا يظهر.

أستثني من المعاناة النخبة الحاكمة العليا والوسطى وطبقة رجال الأعمال الكبار وجزء من الطبقة الوسطى لأن جزأها الآخر قد تدهور إلى مستويات الفقر، وأيضاً أستثني المستفيدين من أفراد الجهاز الحكومي الذين لهم احتكاك بالناس ومصالحهم ممن يستفيدون من الرشاوى والخوات، وأضيف لهم عصابات الخطف والسرقة والابتزاز والاتجار بين مناطق سيطرة المعارضة وسيطرة النظام ومن شابههم. بل وأضيف لهم فئات ممن كانوا أو مازالوا في مناطق سيطرة المعارضة وبين فصائلها المسلحة من الفاسدين الذين استغلوا الأوضاع لتحقيق ثروات صغيرة أو كبيرة، وقد تحول عدد كبير من قادة الفصائل إلى أمراء حرب وجهاديين فاسدين.

ولكن جميع أفراد الفئات التي لا تعاني من أوضاع معيشية صعبة يشكلون أقل من 20% من الشعب السوري، بينما أصبح 80% من السوريين يعانون من فقر وفقر مدقع، بما فيهم عناصر في الجيش وحتى الأمن وفي الجهاز الحكومي الإداري وغيرهم ممن لا يحصلون على أي دخول تزيد عن رواتبهم الهزيلة.

في الآونة الأخيرة، وبعد أن استعاد النظام سيطرته على مناطق إضافية كانت خارج سيطرته، وذلك بدعم من الطيران الروسي والميليشيات الإيرانية، زادت معاناة غالبية السوريين بدلاً من أن تنفرج، كما روج إعلام النظام، وكان هذا عكس ما انتظره السوريون المقيمون في مناطق سيطرة النظام، فقد تدهورت الأحوال المعيشية بدلاً من أن تتحسن، وقد خلق هذا ردات فعل لم يتوقعها النظام وراكم مزيداً من الغضب الذي بدأ التعبير عنه يخرج للعلن من أوساط عرفت بولائها للنظام. وهذا أمر يخيف النظام لأنه يرسل رسالة مفادها أن استمرار الأزمات المعيشية مرتبط باستمرار النظام ذاته ما لم يحدث تغيير وفق حل سياسي يرضي غالبية السوريين. ومخاطر هذا التدهور أنه يهدد بتشقق بنية النظام ذاته، ويهدد بتحول حاضنته إلى العداء، لأنها ستربط الأزمة ببقاء النظام خاصة وأن الحجة التي تستعمل لتبرير الأوضاع الصعبة هو محاربة "الارهاب"، ولكن ها هو "الارهاب"؟ يتراجع ويقترب من الاختفاء، ولكن مع تراجع "الإرهاب" تتقدم الأزمات بدلاً من أن تتراجع.

وأخطر بنود الأزمة هي المحروقات، فبدون محروقات اليوم تتوقف الحياة كلياً، فالحياة في البيوت تتوقف على الطاقة من كهرباء وغاز ومازوت، والخدمات العامة من نقل ومدارس ومشافي وغيرها تتوقف عليها، ومرافق الإنتاج من الزراعي البسيط وحتى المصانع الكبيرة تحتاج للطاقة، وحتى آلة الدولة المدنية والعسكرية كلها تعمل على مصادر الطاقة ومصدرها الرئيس هو المحروقات.

يرتبط اشتداد المعاناة المعيشية في الشهور الأخيرة في اعتقادي، بسببين رئيسيين:

الأول: هو تراجع الموارد. فتشديد العقوبات على إيران يضعف قدرتها على دعم النظام كما في السابق، كما أن توسع سيطرة النظام على مناطق إضافية في سوريا مثل الغوطة والقلمون الشرقي ودرعا والبادية باتجاه دير الزور وحدود الرقة قد زاد من أعبائه، بينما ساهم توقف الدعم الذي كان يصل لفصائل المعارضة على شكل رواتب تدفع بالدولار، وتوقف الدعم الإغاثي الذي كان يقدم للمناطق التي استعاد النظام السيطرة عليها، كلها ساهمت بتقلص الموارد وتقلص عرض الدولار في الأسواق مما تسبب برفع سعره، وساهم في ازدياد الأزمة توقف قوات الـ "بي يي دي" الكردية، بضغط من الأمريكان، عن ضخ النفط الخام للنظام من حقول محافظة الحسكة حيث يسيطرون على المنطقة وحقول نفطها التي حافظت على قدرتها على الإنتاج لأنها لم تتعرض للنهب والتدمير كما حصل في حقول دير الزور وغيرها من المناطق التي سيطرت عليها فصائل المعارضة. وينتج النظام اليوم قرابة 25 ألف برميل بينما يحتاج لنحو 140 ألف برميل.

أما السبب الثاني: فهو استعمال هذا الموضوع كأداة ضغط من قبل الروس والإيرانيين على السواء، وهما يتنافسان على فرض السيطرة على النظام ومصادرة قراره، فإيران تضغط كي يستجيب النظام لطلباتها بما يزيد من نفوذها في سوريا، بينما يفعل الروس الأمر ذاته، بل يريد الروس الضغط أيضاً لإرغام النظام على إبداء بعض المرونة تجاه ما يمكن الاتفاق عليه في استانا وسوتشي فيما يخص تشكيل اللجنة الدستورية وطبيعة النظام السياسي الذي سينص عليه الدستور وكيفية إجراء الاستفتاء والانتخابات، إذ ثمة خلافات في وجهة نظر بين النظام وإيران من جهة، فهما يرفضان أي حل سياسي وأي تغيير في محتوى الدستور القائم ونظام الحكم تحت أي حل سياسي، والروس من جهة أخرى، وهم يريدون إدخال حد أدنى من التعديلات التي تجتذب أطرافاً من المعارضة المعتدلة بما يقنع الأمريكان والأوروبيين وبعض العرب بدعم هذا الحل وتأييد إدراجه تحت مظلة جنيف كي يقولوا "هذا حل سياسي وفق جنيف وقرارات مجلس الأمن"، وبالتالي عليكم فتح الطريق أمام دعم إعادة الإعمار، لأن الأمريكان والأوروبيين وبعض العرب يضعفون الحل السياسي كشرط للمساهمة في إعادة الإعمار، وسوريا بدون إعادة إعمار هي عبء مادي وفشل سياسي بالنسبة للروس.

 
تراجع سعر صرف الليرة السورية، مؤخراً، بشكل دراماتيكي، إلى أدنى سعر منذ عامين.. ويعتقد مراقبون كثر أن هذا التدهور الذي كان بطيئاً وتدريجياً منذ شهر أيلول/سبتمبر الماضي، سيستمر، وقد يتسارع، مع تشديد العقوبات والحصار المرتقب على النظام، إلى جانب تفاقم حاجة السوق الداخلية للاستيراد، وبالتالي، المزيد من الضغط على احتياطي النقد الأجنبي المستنزف المتاح لدى حكومة النظام.. فكيف ترى المسار المرتقب لتراجع سعر صرف الليرة السورية، هل سنكون أمام تدهور غير مسبوق؟، أم أن النظام يملك آليات تمكنه من فرملة هكذا تدهور؟.. وهل تعتقد أن النظام يرى في تراجع سعر صرف الليرة مصلحة له، كما يتهمه بعض المراقبين؟



رغم الظروف استطاع النظام أن يحافظ على آلته المدنية والعسكرية شغالة والمحافظة على سير الحياة بحدود دنيا في المناطق التي بقيت تحت سيطرته، ساعده في ذلك عدة عوامل منها أنه أوقف الانفاق الاستثماري في الموازنة العامة، واستعمل الاحتياطي العام، وحصل على تسهيلات ائتمانية من إيران قدرتها بعض التقارير بـ 25 مليار دولار، بينما أمدته روسيا باحتياجاته من السلاح والذخيرة، وهذه كلها ديون متراكمة ستدفعها سوريا مستقبلاً، أياً كان نظام الحكم. كما ساعدته الإغاثة التي كانت تقدم عن طريق الأمم المتحدة، إضافة إلى أن خروج مناطق واسعة من تحت سيطرة النظام قد قلصت حاجته للانفاق عليها، كما أن تهجير ملايين إلى دول الجوار قد أنزل عن كاهله عبء رواتبهم والإنفاق على خدماتهم، وبالتالي استطاع أن يستمر بالشكل الذي رأيناه.

 لكن، وبعد عودة سيطرته على مناطق واسعة، فإن أعباء إضافية زادت على كاهله، دون أن تقدم له أي موارد بسبب دمار تلك المناطق، وتهجير جزء كبير من سكانها، فكان تأثير عودتها سالباً على أوضاع النظام المالية والأوضاع المعيشية لعموم السوريين.

على مدى ثمان سنوات نجح النظام في جعل تراجع سعر صرف الليرة السورية تجاه العملات الصعبة، والدولار تحديداً، تراجعاً بطيئاً وتدريجياً، بل واستطاع ضبط التراجع بسقف دون 500 ل.س للدولار حتى سنة 2018 بعد أن كان بـ 47 ليرة سنة 2010، وهذا يعد نجاحاً لأن التوقع كان أكبر من ذلك بكثير. وقد لعبت مجموعة عوامل أشرت لبعضها من قبل، والمجال يضيق هنا للدخول بالمزيد من التفاصيل. ومؤخراً قفز الدولار فوق حاجز الـ 500 ليرة سورية وهو اليوم بحدود 570 ليرة سورية للدولار الواحد، مما يجعل الحياة لمعظم السوريين داخل سوريا أصعب، ولا اعتقد أن للنظام مصلحة في هبوط القدرة الشرائية لليرة السورية، ويُتوقع أن يستمر الوضع بالتدهور ما لم تسرع روسيا أو ايران لتقديم دعم للنظام.. وأعتقد أن إيران وروسيا لن يسمحا بسقوط النظام تحت الضغوط الاقتصادية وسيقدما للنظام ما يحتاجه بالحدود الدنيا التي تحفظ بقاؤه لا أكثر، بغض النظر عن جعل هذه التقديمات مشروطة.

من جهة أخرى، سوريا مفتوحة على العراق وعلى لبنان ويمكن لإيران أن تمد سوريا عن طريق العراق أو حتى لبنان ببعض ما تحتاجه، ولكن قدرتها اليوم أضعف وستكون أضعف إذا صممت الولايات المتحدة أن تمنع تصدير أي كميات من نفط  إيران فيما سمي بـ "تصفير صادرات إيران من النفط". ثم لو أرادت روسيا، فهي قادرة على إمداد النظام بما يحتاج من محروقات/وقود ومواد ومستلزمات، فالعقوبات هي عقوبات أمريكية وأوروبية وجامعة عربية، وليست عقوبات أمم متحدة ملزمة لجميع أعضائها، ولكن معظم دول العالم تلتزم بها خوفاً من النتائج السلبية لخرقها، والتي ستُوقعها الولايات المتحدة بالدول والشركات التي تخالف عقوباتها. كما أن روسيا لا تريد أن تدفع أي أموال خارج تشغيل آلتها العسكرية وتشكيل قوات عسكرية تأتمر بأمرها. أما بخصوص قانون سيزر فيبدو أن ترامب لن يوقع قانون سيزر الذي سيخنق النظام أكثر.


ترك تعليق

التعليق