طوفان لاجئين تلوّح به تركيا.. ما هي خيارات أوروبا؟


أسئلة عديدة يطرحها التلويح التركي بورقة اللاجئين السوريين في مواجهة الخذلان الأوروبي لأنقرة، خلال صراعها المتفاقم مع روسيا، في شمال غرب سوريا. أبرز هذه الأسئلة: هل تستطيع أوروبا غلق حدودها في مواجهة طوفان لاجئين محتمل، إن نفذت تركيا تهديدها؟، وإن قررت أوروبا دعم أنقرة في مواجهة موسكو، فما هي خياراتها وحدود إمكانياتها في ذلك، دون سندٍ أمريكي؟

لماذا خذلت أوروبا الأتراك؟

يعتقد فريق واسع من المراقبين أن أكبر قوتين أوروبيتين، ألمانيا وفرنسا، تلكأتا في دعم أنقرة، خلال طرح خيار عقد قمة رباعية، تجمع قادة روسيا وتركيا وألمانيا وفرنسا، للبحث في أزمة إدلب. فرغم أن الكرملين قال صراحةً أنه يفضل تسوية خلاف إدلب بشكل ثنائي، مع تركيا، إلا أن الفرنسيين والألمان لم يقوموا بأي خطوات لملاقاة الدعوة التركية لهذه القمة، في إشارة صريحة إلى التخلي عن تركيا، وتركها وحيدة في مواجهة "الدب الروسي"، في شمال غرب البلاد.

ويبدو ذلك مفهوماً، نظراً لتعقيدات العلاقة بين الجانبين التركي والأوروبي، في ملفات عدة، أبرزها استياء الدول الأوروبية البارزة من إصرار أنقرة على التنقيب عن النفط في المياه الإقليمية لجزيرة قبرص المقسمة، والتي لا يعترف الاتحاد الأوروبي، بشطرها الشمالي، بوصفه دولة ذات سيادة، يحق لها الحصول على نصيب من موارد النفط في مياهها الإقليمية. لذلك، ففي الوقت الذي كانت فيه أنقرة تستجدي الدعم الأوروبي في مواجهة الاستقواء الروسي عليها، في إدلب السورية، كان الاتحاد الأوروبي يصدر عقوبات ضد مسؤولين أتراك على صلة بالتنقيب التركي عن النفط، في مياه قبرص الإقليمية.

ويتصل النزاع حول نفط مياه قبرص، بنزاع أكبر، حول الاحتياطيات المحتملة للنفط والغاز في شرق المتوسط، والذي تسعى تركيا لعرقلة شراكة مصرية – قبرصية – يونانية – إسرائيلية، فيها، اعتراضاً على عزلها من هذه الشراكة. فتركيا تعتقد أن لها حقوقاً في تلك الاحتياطيات، المختلف حول تقسيمها، نظراً للخلاف حول الحدود البحرية بين الأطراف المتنازعة في شرق المتوسط.

أوروبا في موقف ضعيف

لكن الموقف الأوروبي، الضاغط على أنقرة في ملف غاز ونفط قبرص، يبدو في وضعية ضعيفة، بمواجهة احتمال أن تفتح أنقرة صنبور اللاجئين القادمين من سوريا، عبر أراضيها، باتجاه جنوب وشرق أوروبا. وتصبح الخيارات الأوروبية في مواجهة ذلك الاحتمال الذي بات قريباً للغاية من التحقق، ليلة الخميس – الجمعة، محدودة للغاية.
 
خلال العام 2019، وعلى خلفية المناكفات التركية – الأوروبية، مع إصرار أنقرة على خوض معركة "نبع السلام"، في "شرق الفرات"، عانت اليونان من تدفق لاجئين هو الأكثر حدة، منذ العام 2015. ورغم وجود اتفاقٍ تركي – أوروبي، يقضي بضبط الحدود، مقابل دعم مالي أوروبي، يستهدف تمويل استقرار اللاجئين السوريين على الأراضي التركية.. إلا أن أنقرة أرخت قبضتها قليلاً على الحدود، فنتج عن ذلك، وفق المصادر الرسمية اليونانية، وصول 45 ألف لاجئاً إلى الجزر اليونانية، خلال ستة أشهر فقط.

وكانت اليونان تتوقع، قبل اندلاع مواجهة إدلب الأخيرة، أنها ستستقبل 100 ألف لاجئ خلال العام 2020. لكن هذا الرقم سيكون متواضعاً جداً، إذا ما نفذت تركيا تهديدها الصريح، الذي صدر ليل الخميس – الجمعة، بفتح الحدود تماماً، أمام تدفق اللاجئين.

في هذه الأثناء، تبدو اليونان بدورها، في أحلك ظروفها، إذ تندلع تظاهرات واحتجاجات عنيفة في الجزر اليونانية التي تضم لاجئين اكتظوا في مخيمات، باتت تحتوي 6 أضعاف طاقتها الاستيعابية من البشر. ويطالب المحتجون اليونانيون في الجزر بنقل اللاجئين إلى اليونان القارية، الأمر الذي قد يعني، إتاحة فرصة أكبر لهم، لمواصلة طريقهم نحو أوروبا الغربية. وهو ما سبق أن حدث في العام 2015. وأمام موجة تدفق كبيرة جداً، قد تعجز اليونان عن مواجهتها وحدها، فإنه من المتوقع أن تفعل أثينا، ما فعلته في العام 2015. أي أن تتيح للاجئين سبل الوصول إلى أوروبا الغربية، التي ستكون ألمانيا تحديداً، أبرز المستهدفين فيها، من قوافل اللاجئين.

سيناريو مرعب.. أن يُقتل مئات اللاجئين على حدود أوروبا!

إحدى النظريات التي تُطرح في هذا الصدد، أن يقوم الاتحاد الأوروبي، مدعوماً بقوات من حلف شمال الأطلسي، بأنشطة تستهدف منع دخول اللاجئين القادمين من تركيا إلى اليونان أو بلغاريا.

لكن، تبقى الأسئلة مطروحة، حول طبيعة الأنشطة التي قد تتمكن من منع تدفقٍ لمئات الآلاف من مجموع مليون سوريّ، تضرر في الحملة العسكرية الأخيرة للنظام المدعوم روسياً، في شمال غرب سوريا. فإلى جانب الكلفة الاقتصادية والأمنية والسياسية، لهكذا إجراءات، قد يسقط جراءها مئات القتلى من اللاجئين الراغبين بعبور الحدود، هناك كلفة أخلاقية، قد تؤثر على الرأي العام الغربي عموماً، بصورة تظهر معها أوروبا، "جنّة حقوق الإنسان"، في مظهرٍ سيءٍ للغاية.

لذلك، يعتقد مراقبون أن الخيار الأسلم للقيادات الأوروبية، أن تبحث سبل منع هذا التدفق للاجئين، من سوريا، قبل أن يصل إلى الأراضي التركية، وهذا يعني، دعم أنقرة في مواجهة الروس. وهنا يُطرح التساؤل التالي: ما هي طبيعة الدعم الذي تستطيع أن تقدمه أوروبا لتركيا في مواجهة روسيا؟

عقدة الغاز الروسي تخنق أوروبا

أحد أشكال الدعم، هي تلك المرتبطة بعمل عسكري، قد يكون حظراً جوياً، في شمال غرب سوريا، في سياق عمل حلف شمال الأطلسي، وهو ما تسعى تركيا للحصول عليه بالفعل. وهذا السيناريو يتطلب دعماً أمريكياً، بطبيعة الحال. لكنه يعرّض القوى الكبرى لخطر مواجهة مباشرة، بينها وبين روسيا. الأمر الذي لا تحبذه أي دولة أوروبية. خاصة إن تذكرنا أن نسبة كبيرة من واردات الغاز التي تُدفّئ أوروبا، وخاصة ألمانيا، تأتي من روسيا. والبحث عن خيارات أخرى سريعاً، ليست أمراً محبذاً أوروبياً، دون شك.

روسيا هي من يضغط.. وليس العكس

لكن ماذا عن خيار عقد القمة الرباعية التي تم تجاهلها منذ أيام، بين ألمانيا وفرنسا وتركيا وروسيا. وماذا يملك الألمان والفرنسيون من أوراق ضغط على روسيا؟ تبدو الإجابة غير واضحة، ويبدو أن ما قد يحدث، ربما يكون العكس، إذ قد تكون هذه القمة، مجالاً للضغط الروسي على الأوروبيين. ففي نهاية المطاف، لن يخسر فلاديمير بوتين شيئاً، إن تدفق مئات الآلاف من السوريين إلى أوروبا، بل يُعتقد أنه يريد ذلك فعلاً. بمعنى آخر، أن على برلين وباريس، تقديم تنازلات للروس، وليس فرض ضغوط عليهم، الأمر الذي يتيح فهم أحد الأسباب العميقة لعدم حماس ألمانيا وفرنسا، لعقد قمة رباعية حول إدلب، تجمعهم بالقيادة الروسية.

ما سبق قد يوصلنا لنتيجة مفادها، أن الأتراك والأوروبيين، معاً، في مأزق، حيال الابتزاز الروسي بورقة اللاجئين، الذين لا تستطيع لا تركيا، ولا أوروبا، تحمل كلفة نزوحهم نحوهما.

إحدى المكاسب التي قد يرغب بوتين في الحصول عليها، أثناء قمة تجمعه مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، هو قبول الثلاثة، بالأمر الواقع المفروض روسياً في سوريا، وقبول التطبيع معه. بمعنى آخر، قبول التطبيع مع نظام الأسد، والمساهمة في إعادة إعمار سوريا، وفق الشروط الروسية، ربما مع بعض الرتوش الشكلية في هيكلية النظام الحاكم بدمشق.

ماذا تريد واشنطن من تركيا وأوروبا.. لقاء دعمهما؟

السيناريو الوحيد الذي يُلغي كل ما سبق، هو انخراط أمريكي جدّي في ملف شمال غرب سوريا. وهو انخراط يبدو أن واشنطن تشترط جملة مطالب، مقابل القيام به، أبرزها، تلك المطلوبة من تركيا، وهي التخلي عن صفقة صواريخ اس400 الروسية، التي دارت بسببها الكثير من المناكفات بين الطرفين خلال العام السابق. إلى جانب، ربما، مطالب أمريكية من الأوروبيين، وتحديداً ألمانيا، تتعلق بخط غاز "نورد ستريم 2" لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر بحر البلطيق، والذي تراهن عليه ألمانيا بصورة كبيرة، والذي تسبب بخلاف كبير بين برلين وواشنطن خلال العام الفائت، وصولاً إلى فرض واشنطن عقوبات على شركات تعمل على إنشاء الخط.

بمعنى آخر، يبدو أن واشنطن ستعمل على استغلال الورطة التركية – الأوروبية الراهنة، كي تعيد اللاعبين التركي والألماني، بصورة رئيسية، إلى "بيت الطاعة" الأمريكي، بعد أن اتخذ الطرفان خطوات تقارب مع روسيا، مبتعدين عن الوصاية والهيمنة الأمريكية.

هل يمكن الرهان على واشنطن؟

لكن دعنا نتصور أن تركيا تخلت عن الـ اس 400، وألمانيا أعادت النظر في شراكتها مع روسيا في خط غاز "نوردستريم2".. ما هي الخيارات الأمريكية للانخراط في معركة إدلب، خاصة وأننا في عام يشهد موسماً انتخابياً، عادةً ما يجعل صناع القرار في واشنطن، راغبين بالابتعاد تماماً عن أية أزمات خارجية، كي لا تؤثر على أصوات الناخبين؟

يبقى الجواب معلقاً، وإن كان الانخراط الأمريكي، المرتقب، لن يكون مكلفاً كثيراً، وفق أكثر التوقعات ترجيحاً. كأن تزود واشنطن تركيا بصواريخ باتريوت، بصورة تفرض حظراً جوياً فعلياً في شمال غرب سوريا، يغير من موازين القوى العسكرية هناك، ويجعل الطائرات الروسية عاجزة عن التحليق. أو أن تدعم المعارضة السورية، بصواريخ مضادة للطائرات، محمولة على الكتف، قادرة على استهداف الطائرات الروسية. وتبدو خيارات الرد الروسي على هكذا تدخلات أمريكية، محدودة. لكن يبقى التساؤل مفتوحاً: هل تتحكم مخاوف واشنطن من الانزلاق في مواجهة مع موسكو خلال عامٍ انتخابي، بصانع القرار في العاصمة الأمريكية؟ خاصة وأن حالات كهذه سبق أن وقعت، من أبرزها، حينما غزت روسيا جورجيا، الحليفة لواشنطن، في العام 2008، قبيل الانتخابات الرئاسية، ببضعة أسابيع، واكتفت واشنطن حينها، بالمساعي الدبلوماسية، لتجنيب العاصمة الجورجية، سيناريو السقوط في القبضة الروسية. وكان رد الفعل الأمريكي على الهجوم الروسي، باهتاً للغاية، ومخيباً لآمال أي دولة تريد الرهان على واشنطن.


وهكذا تبدو كل السيناريوهات، عصيبة، لكن من الواضح أن تركيا التي تورطت في الساحة السورية، تملك ورقة تتيح لها نقل كاهل الأزمة عن عاتقها، لتضعه على عاتق أطراف أخرى، أبرزها في الوقت الراهن، أوروبا. فيما تبدو روسيا وأمريكا، الطرفان الأكثر ارتياحاً في هذه المواجهة القاسية، التي تتم على حساب السوريين العالقين هناك.




ترك تعليق

التعليق