التجوّل بين أنقاض اقتصاد منهار


لا أحد يعرف على وجه التحديد ما الذي حدث حتى هبطت الليرة في غضون شهر إلى أكثر من 7 آلاف ليرة مقابل الدولار، ثم ارتفعت في غضون أيام لتصبح دون 6 آلاف، لكن الشيء الموكد أن هذا الارتفاع الكبير ثم الانخفاض الكبير، خلّف وراءه كوارث على صعيد الأسعار، من الصعب إعادتها إلى ما كانت عليه، وفق قاعدة بسيطة: ما الضمانة ألا تهبط الليرة مجدداً، ما دام أسباب هبوطها وارتفاعها غير منطقية وغير معروفة حتى الآن..؟

حديث الأسعار التي لم تنخفض رغم ارتفاع سعر صرف الليرة، يحتل حيزاً كبيراً من حديث المحللين الاقتصاديين والتجار، الذين يرون أن من يحدد سعر صرف الليرة اليوم، هو كيلو البطاطا وكيلو الفجل، مشيرين إلى أن الإنتاج وتكاليفه هو أصدق من هذا الهراء الذي يجري في أسواق العملة، حيث أصبحت الليرة سلعة، شأنها شأن طبق البيض..

ويرى محللون في مناطق سيطرة النظام، أن المعيار هو السوق السوداء، التي تحتل حيزاً كبيراً من حجم الاقتصاد الكلي، يكاد يشكل أكثر من 80 بالمئة، وبالتالي فإن أسعار المواد الأساسية التي تعجز الدولة عن توفيرها، لا تزال على حالها في تلك السوق، ولم تتراجع مع ارتفاع سعر صرف الليرة، وهذا يعطي مبرراً للأسعار أن تستمر بالارتفاع..

وعلى صعيد إدارة الاقتصاد من قبل الحكومة، يمكن ملاحظة أن هناك شبه تخلي عن القيام بأي دور أو مساهمة، قد تعيد الأسواق إلى رشدها.. فوزارة التجارة الداخلية، وكما العادة، أعلنت أن الأسعار سوف تنخفض من تلقاء نفسها في غضون أسبوع، هكذا بقدرة قادر، دون أن تعلن عن إجراءات أو عزمها التدخل بطرح سلع بأسعار منخفضة.. هي تعتقد أن مجرد تسعيرها للمواد هو بحد ذاته دور كبير وشاق، وسوف يدفع التجار لتخفيض أسعارهم رغماً عنهم، ما دامت تملك سلطة القانون، الذي يتيح لها معاقبة كل من يخالف تعليماتها.. لكن على أرض الواقع، فإن أحداً لا يلتزم بهذه الأسعار.. وأكبر مثال على ذلك، أن سعر صحن البيض وفقاً لتسعيرة الوزارة يبلغ 16500 ليرة، بينما لا يمكن الحصول عليه من الأسواق بأقل من 20 ألف ليرة.

أحد الصناعيين ورجال الأعمال البارزين الموالين للنظام، والذي يدعى عصام تيزيني، كتب كلاماً هاماً على صفحته الشخصية في "فيسبوك"، حول ما يجب أن تقوم به الحكومة، من أجل إنقاذ الوضع الاقتصادي في البلد..

لقد طالبها أن تقرأ التجربة الراوندية، التي خرجت من حرب أهلية دمرت البلاد والعباد، ثم استطاعت في غضون سنوات قليلة أن تحقق قفزات نوعية على صعيد النمو الاقتصادي، حتى أصبحت تجربتها اليوم تدرّس في كبرى الأكاديميات الاقتصادية العالمية..

لقد رأى تيزيني أن ما قامت به راوندا باختصار، هو أنها سمحت للجميع بالعمل والإنتاج دون أي شروط أو ضوابط، ودو ضرائب وتراخيص وسجل تجاري وصناعي، ثم سمحت للفارين من أصحاب رؤوس الأموال بالعودة للبلد والعمل فيها، دون أي شروط كذلك.. وهو ما جعلها حسب قوله، تستعيد عافيتها الاقتصادية بسرعة كبيرة، استطاعت بعدها أن تعيد الاستقرار للبلد بشكل كامل..

وقال تيزيني، إن المطلوب من الحكومة هو رفع مستوى الدخل فقط، ومن ثم تترك الناس لشأنها، وهي سوف تتدبر أمور معيشتها وحياتها الاقتصادية، وبما يعود في النهاية بالنفع على الدولة.

وقبل هذا الاقتراح، كتب تيزيني متهماً الحكومة بأنها لا تستمع للنصائح والأفكار التي تكتب يومياً عبر وسائل الإعلام، وبأنها على الأغلب، ترميها في سلة المهملات، لأنها لا تريد أن يشاركها أحد حتى بالنصيحة.

وبما يخص موضوع المحروقات، الشغل الشاغل للسوريين اليوم، والذي ترتبط به جميع مناحي حياتهم المعاشية، بدءاً من الكهرباء وانتهاء بسعر كيلو البندورة، فقد أعلنت الحكومة عن وصول بعض التوريدات وبدء تشغيل مصفاة بانياس، بالإضافة إلى زيادة حصص المحافظات من طلبات البنزين والمازوت، من غير أن توضح ما إذا كانت هذه التوريدات سوف تستمر، أم أنها سوف تنقطع، مثل كل مرة.. ولعل إحجام الحكومة عن تقديم تطمينات حول هذا الجانب، يعكس مدى فقدان الثقة بينها وبين المواطن، فهي سبق وأعلنت كثيراً عن استقرار الأوضاع النفطية، ليتضح فيما بعد بأنها كانت تكذب على الناس.

أغلب الظن، وكما يشير العديد من المراقبين، بأن هناك تغييراً حكومياً وشيكاً خلال الفترة القادمة، ليس بهدف تغيير الأوضاع وإتباع سياسات جديدة، ولكن من أجل تخدير الناس لفترة زمنية جديدة، يقولون لهم فيها بأن أي حكومة لحتى تظهر نتائج أعمالها، بحاجة إلى ستة أشهر على الأقل، وفي حالة مثل سوريا، فهي بحاجة إلى أكثر من سنة.

باختصار، التجول بين أنقاض الاقتصاد السوري، يشير إلى أن إعادة إعماره مهمة شبه مستحيلة.. فقبل إعادة الإعمار، لا بد من إزالة الأنقاض..

ترك تعليق

التعليق