هل يمكن استعادة قيمة الليرة السورية بعد رحيل النظام..؟


أكثر سؤال يتبادر للذهن، وخصوصاً لأولئك الذين عاشوا العصر الذهبي لليرة السورية، هل يمكن أن تعود الليرة إلى سابق عهدها بعد رحيل النظام عن السلطة في سوريا..؟

وكلمة سابق عهدها هنا، مرت بمراحل كثيرة على مدى أكثر من 60 عاماً، وبالتحديد من العام 1950 وحتى العام 2011، أي قبل انطلاق أحداث الثورة السورية.. لكن في كل هذه المراحل لم تصل الليرة إلى هذا المستوى الذي شهدته من الانهيار، خصوصاً بعد العام 2020، حيث تراجعت قيمة الليرة بأكثر من سبعة أضعاف أمام الدولار الواحد، من 2000 ليرة وحتى نحو 15 ألف ليرة.

وبالنسبة للجيل الذي ولد بعد العام 2000، لا بد أن نذكره بأن الدولار الواحد كان يساوي أقل من 4 ليرات سورية من الخمسينيات وحتى مطلع الثمانينيات تقريباً، لكنها بعد ذلك استقرت عند مبلغ خمسين ليرة لكل دولار على مدى العشرين سنة التالية، أي منذ مطلع التسعينيات وإلى العام 2011.

وفي العموم، نحن هنا لا نريد الخوض في أسباب انهيار الليرة السورية، فهو مبحث مختلف عن توجهاتنا، ومن جهة أخرى، فإن ما وقع قد وقع، ولا يفيد في حالة الليرة السورية، تشريح جثة الميت لمعرفة أسباب الوفاة، كونها معروفة تقريباً للجميع، والتي يأتي على رأسها الفساد ونهب المال العام وسوء الإدارة والتخطيط، فضلاً عن أن نظام الأسد الأب والابن، كان يتعامل مع البلد بعقلية المحتل والغازي، الذي لم يكن يهتم لشؤون التنمية، بقدر ما كان يهمه توظيف كل المقدرات الاقتصادية والشعبية لتثبيت سلطته القمعية فقط.

إذاً، دعونا ندخل سريعاً في موضوع بحثنا، وهو كيفية استعادة الليرة السورية لقيمتها فيما لو تم التخلص من النظام، وما هي الإمكانيات المتاحة لتحقيق هذا الأمر، بالقياس إلى تجارب مشابهة، نجحت إلى حد بعيد، بالتخلص من أعباء الماضي، والانطلاق بأفق جديد نحو المستقبل.

أكبر مثال يمكن استحضاره في هذا المجال، هو التجربة التركية، والتي وصلت عملتها إلى مرحلة من الانهيار، بلغ فيها قيمة الدولار الواحد مليون و200 ألف ليرة، في العام 2002، أي قبل تسلم حزب العدالة والتنمية لزمام الحكم في البلد.

وبعجالة، فقد وصلت الليرة التركية إلى هذا المستوى من الانهيار، بسبب السياسة النقدية التي كانت تتبعها الحكومات المتعاقبة، والتي تقوم على مبدأ حساب حجم التضخم النقدي بشكل سنوي، ومن ثم إضافته على قيمة الليرة، عبر طباعة المزيد من النقود.

الكل يعتقد أن حزب العدالة والتنمية، رفع من قيمة الليرة لدى مجيئه إلى السلطة، إلا أن ما فعله هذا الحزب، كان هو إزالة ستة أصفار فقط، بحيث أصبح الدولار يساوي ليرة واحدة و20 قرشاً تركياً في مطلع العام 2002، لكنه على مستوى موازي أخذ يشتغل على أمر شديد الأهمية، وهو التنمية الاقتصادية.. فكما هو معروف أنه لا يوجد في تركيا موارد طبيعية، من نفط وغاز، وإنما خيارها كان بالتوجه نحو الصناعة بكافة أشكالها، بالإضافة إلى تنمية القطاع العقاري، الذي يمتص أكثر من 60 بالمئة من طاقة العمل في أي بلد، ما يعني زيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة السيولة، والتي ستنعكس بدورها على دوران عجلة الاقتصاد.

لقد استطاعت تركيا على مدى عشر سنوات أن تحقق نسب نمو في الاقتصاد، كانت تتراوح بين 7 - 9 بالمئة، وهي من أعلى النسب العالمية، بفضل الاستثمارات الكبيرة التي استطاعت جذبها إلى داخل السوق التركية، عبر إصدار قوانين وتشريعات مرنة تعتبر مغرية لأي مستثمر.

وبلغة الأرقام، فقد نجحت تركيا من العام 2002 وحتى العام 2012، أن تزيد من قيمة صادراتها من نحو 20 مليار دولار سنوياً إلى أكثر من 160 مليار دولار سنوياً، وبعد ذلك وصلت الأرقام إلى أكثر من 300 مليار دولار سنوياً.

أما الآن، فإذا أردنا أن نعكس الكلام السابق على الوضع السوري.. فما هي الفرص المتوفرة لاستعادة الاقتصاد لعافيته، ومن ثم استعادة الليرة لقيمتها..؟

في البداية، تمتلك سوريا كامل احتياجاتها من النفط والغاز، والمقدر إنتاجهما بحسب إحصائيات النظام الرسمية، بـ 380 ألف برميل نفط يومياً قبل العام 2011، ونحو 30 مليون متر مكعب من الغاز في اليوم، بينما يقدر الاستهلاك اليومي، بنحو 200 ألف برميل نفط والباقي يتم تصديره، ويتم استهلاك كامل الغاز، مع نقص يصل إلى نحو 6 مليون متر مكعب يومياً..

أما على أرض الواقع، فيقول الخبراء إن إنتاج سوريا من النفط يتجاوز الـ 500 ألف برميل يومياً، مع إمكانية تصدير أكثر من 250 ألف برميل يومياً، تصل قيمتها وسطياً إلى أكثر من 20 مليون دولار، أي في الشهر 600 مليون دولار وفي العام أكثر من 7 مليار دولار.

هذه الثروة يمكن النظر إليها على أنها عامل انطلاق مهم للاقتصاد السوري نحو استعادة عافيته، بينما في الحالة التركية، فإن البلد تستورد يومياً بين 800 ألف إلى مليون برميل نفط، بقيمة تصل إلى أكثر من 70 مليون دولار.. وهو استنزاف كبير للنقد الأجنبي والاقتصاد، ناهيك عن المستوردات من الغاز والتي تبلغ نفس القيمة تقريباً.

الأمر الآخر الذي يتميز به الاقتصاد السوري، هو الإكتفاء الذاتي من الإنتاج الزراعي والحيواني، وامتلاك الكثير من الثروات الطبيعية، كالفوسفات، الذي يحقق لوحده موارد سنوية تقدر بمليار دولار، ناهيك عن القطاع السياحي الذي كان هو الآخر يحقق إيرادات وفقاً لإحصائيات قبل العام 2011، نحو 3 مليار دولار سنوياً.

أما الموضوع الأهم، فهو مشاريع إعادة الإعمار، والتي يمكن أن تعتبر انطلاقة كبيرة نحو فتح الأسواق السورية لاستثمارات كبيرة ومهمة، تغري المستثمرين السوريين والأجانب لكي يدخلوا هذا القطاع، نظراً للأرباح الكبيرة التي تحققها.

كل ذلك يجعل من فكرة أن تستعيد الليرة السورية عافيتها، أمراً واقعاً وليس متخيلاً، نظراً لتدفق النقد الأجنبي بعد سقوط النظام، فيما لو آلت الأمور السياسية للاستقرار في غضون عام على الأقل.

وبناء عليه، فإن ما هو مطلوب من أي سلطة سوف تلي النظام، هو فتح البلد وسن قوانين وتشريعات تتيح للجميع العمل بحرية، وفتح الأسواق الداخلية لكل من يريد أن يعمل وينتج من القطاع الخاص، وأن تكون مهمة الدولة الإشراف وليس المشاركة، وتقاضي الضرائب، التي من شأنها أن تدعم كل نشاطات الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد.

هذا ليس حلم، وإنما حقيقة يمكن أن يتم إنجازها في غضون بضعة سنوات قليلة، إذا ما توفرت الإرادة والعمل لدى النظام الجديد.

يتبع في الجزء الثاني..

ترك تعليق

التعليق