سيرة أحد أغنى السوريين.. من حافي القدمين على الرمال، إلى عالم المليارديرات
- بواسطة إياد الجعفري - اقتصاد --
- 22 تشرين الاول 2025 --
- 0 تعليقات
ملهمة للغاية، قصّة رجل الأعمال السوريّ، الذي سنخبركم عنه. فهو انتقل من قاع الفقر، إلى عوالم المليارديرات، حرفياً. من بيئة بدائية، رملية، الماء فيها نادر، بعادات عشائرية قاسية، ولا استقرار فيها، إلى بيئة غنية بالتكنولوجيا والثراء، في قصر فرنسي كلاسيكي، فيه ثلاثة مسابح، وسيارتي فيراري ولامبرغيني. نقلة تمت في 70 سنة. لكنه يشعر وكأنها 3 آلاف سنة.
نحدثكم هنا، عن رجل قد يكون أثرى سوريّ، على الإطلاق، وفق قوائم المليارديرات العالمية. إذ تتجاوز ثروته الـ 3.4 مليار دولار. هو الفرنسي – السوري، محمد الطراد.
يزعجه أن يُوصف بالفرنسي من أصول سورية. لا لأنه يتبرأ من أصوله. بل لأن تصنيفه كفرنسي غير أصيل، يؤلمه، وفق ما يظهر من لقائه المسجّل مع "فرانس 24"، قبل عشر سنوات. فالرجل الذي وصل إلى فرنسا عام 1970، دون أن يعرف الفرنسية، ناضل بشراسة كي يستحق الاندماج بالمجتمع الفرنسي، حتى حظي بوسام جوقة الشرف - برتبة فارس، عام 2005، ونال "الجائزة العالمية للمقاول" عام 2015. وبات يوُصف بأنه أغنى سكان مونبلييه، المدينة الواقعة في الجنوب الفرنسي، والتي وصلها قبل 55 عاماً، في خريف بارد، قاسى فيه ألم التعرّف إلى واقع الحياة بفرنسا، على حقيقته، والذي كان مختلفاً عن تصوراته المسبقة، المستقاة من الكتب.
لم يزر سوريا مجدداً، منذ آخر زيارة له عام 1972. إذ استشعر أن لا شيء يشده إلى بلده الأم. ربما بسبب النشأة القاسية التي عانى منها، هناك. وكان لافتاً أنه تحدث بالفرنسية، في لقائه المسجّل مع "فرانس 24"، عام 2015، والذي قال فيه، إنه لا يعرف بدقة تاريخ ميلاده، لكنه يقدّره بالعام 1948. ففي عائلته من البدو الرحل، لم يكن هناك سجل للحالة المدنية.
لكن المؤلم أكثر في سيرة نشأة هذا "البدوي"، حسبما يصف نفسه في رواية كتبها شخصياً، أنه وُلد جراء عملية اغتصاب، هي الثانية لوالدته، من جانب أبيه، زعيم العشيرة، صاحب السطوة، وفق الأعراف في تلك البقعة الصحراوية من محافظة الرقة، يومها.
وقد ربطته العاطفة بأمٍ لم يعيها جيداً، إذ ماتت وهو في الرابعة من عمره فقط. لتربيه جدته، بعد أن تخلى عنه والده. وفي خيمة متنقلة، قررت الجدّة مصيره كراعٍ، لا حاجة له، لأن يتعلم. لكنه كافح، إذ وعى منذ سنِي طفولته المبكرة، أن مخرجه من مصيره القاتم، في هذه البيئة القاسية، هو الدراسة. فكان يستيقظ مبكراً جداً، ليقطع مسافة بعيدة سيراً على الأقدام، على الرمال، حافي القدمين، وصولاً إلى المدرسة الأقرب المتاحة. قبل أن تتيح له الأقدار فرصة. إذ انتقل ليعيش مع أحد أقربائه، في مدينة الرقة، مما أتاح له متابعة الدراسة بانتظام، وصولاً إلى "البكالوريا"، التي حصّلها بتفوق، فحصل على منحة دراسية من الحكومة السورية للدراسة في الخارج.
ومن بين 12 متفوقاً على مستوى سوريا (بعدد المحافظات)، ظهر الصبي محمد الطراد، بجلابية، بوصفه أفقرهم. إذ عجز عن شراء ملابس أفضل يومها. ورَغِب بأن يكون طيّاراً في الجيش، وكانت الخطة أن يدرس هذا الاختصاص في كييف بأوكرانيا، التابعة حينها للاتحاد السوفيتي. لكن الأقدار، ربما أسعفته مجدداً، كي لا يكون طيّاراً في جيشٍ، سيتورط بعد عقدٍ فقط، بأعمال عسكرية ضد شعبه، في ثمانينات حافظ الأسد. إذ لم يُتَح له الشاغر المطلوب. فخُيِّر بين الدراسة في جامعة حلب، كي يصبح أستاذاً، وبين الانتقال إلى القاهرة لدراسة الطب، أو أن يحصل على منحة مالية بقيمة 200 فرنك فرنسي، للذهاب إلى فرنسا، واختيار تخصص للدراسة هناك. فاختار الخيار الأخير، بدفعٍ من قراءات أدبية وسياسية محدودة له، عن فرنسا، خلقت في مخياله صورة ذهنية مطلقة الإيجابية، عن الحياة في هذا البلد الأوروبي. سرعان ما تلاشت هذه الصورة حينما حط في فرنسا، ليرى متشردين وفقراء في الشوارع، وليواجه معاملة غير ودودة من كثير من الفرنسيين، جراء عجزه عن التواصل معهم بالفرنسية. فكانت خطواته الأولى هناك، عصيبة، خلقت لديه مشاعر ندم على خياره هذا. لكنها لم تتمكن من حسّه الشغوف بالكفاح. فكافح حتى أتقن الفرنسية. وكافح حتى حصل على الدكتوراه في المعلوماتية. قبل أن يبدأ العمل كموظف في أكثر من شركة فرنسية، ومن ثم خاض تجربة العمل في أبوظبي، بالإمارات، يوم كانت أشبه بقرية، مطلع الثمانينات. وبعد 4 سنوات من العمل هناك، ادخر خلالها مئات الآلاف من الدولارات، عاد إلى فرنسا، ليخوض تجربة العمل الخاص. وقد أسس شركة للحواسيب المحمولة، كانت رائدة يومها، بصحبة عدد من أصدقائه. وقد تمكن من بيعها لاحقاً بنحو 600 ألف دولار. قبل أن يقرر شراء شركة مفلسة للسقالات، في الجنوب الفرنسي، عام 1985. كانت الشركة تضم 200 موظف، وتعاني عجزاً بمئات آلاف الدولارات. وكان ذلك منعطف مسيرته نحو الثراء، والتي لم تخلو من عقبات ونكسات عدة.
واليوم يمتلك محمد، مجموعة "الطراد العالمية"، التي تعد من أضخم شركات "السقالات" في العالم. إذ أنها تنشط في أكثر من 100 دولة. وتضم امبراطوريته، شركات متخصصة في البناء وخدمات الصيانة والنفط والطاقة.
ووفق تقرير نشرته "فوربس" عام 2015، فإن محمد الطراد يقطن في قصر بمونبلييه، بني قبل قرن من الزمن. وغير بعيد عنه، يقع مقر مجموعته، في أحد أحياء المدينة. يعمل في المقر 25 شخصاً فقط، ليديروا شركة تملك مليون عميل، و7 آلاف موظف.
يقول الطراد إن نجاح شركته كان يتعلق بالهيكلية غير المركزية. فهي عبارة عن شركة قابضة انسيابية، وشركات تابعة تتمتع بحكم شبه ذاتي. ويضيف أنه، عندما يشتري شركة ما، يفرض أقل عدد ممكن من القوانين، ولا يجري أي تغيير على غالبية الموظفين أو على الثقافة المؤسسية للشركة. وبذلك نجحت عمليات استحواذه على 22 شركة، في عدد من الدول، منها قطر والمغرب.
وعلى صعيد حياته الشخصية، اقترن الطراد بمحامية فرنسية – بريطانية، لـ 13 عاماً. وكانت بمثابة رفيقة دربه. لكنهما انفصلا عام 1995. وله 5 أبناء.
وقد اشتُهر في فرنسا، بعد أن بدأ استثماراته في مجال الرياضة بشراء فريق مونبلييه للرغبي، عام 2011، لينقله من فريق على وشك الإفلاس، إلى بطل تُوج على مستوى فرنسا، قبل بضع سنوات.
الملفت أن لا ذكر لـ محمد الطراد، فيما يتصل بسوريا. فلا استثمارات مذكورة له في بلده الأم. ولم يقم بأي لفتة تجاه سوريا، منذ 53 عاماً، تاريخ آخر زيارة له. ربما، بدفعٍ من نشأته القاسية هناك. إذ كانت آخر صلة له بسوريا، هو قرار الحكومة مطلع السبعينات، إنهاء تمويل منحته، وطلبها منه، أن يعود إلى سوريا. وهو ما رفضه، وعمل على تسديد تكاليف المنحة الحكومية، ليفك ارتباطه ببلده، حينها.
هو شخصية صقلتها قسوة البادية السورية، فتمكنت من كسر كل حواجز التمييز والصعاب في فرنسا. وهناك، استشعر وطنه، بعيداً عن بلدٍ، كان مخيال الأب النابذ، يلوح منها.
وفيما تحتاج سوريا اليوم لأبنائها من ذوي المواهب بالخارج. قد تكون لفتة إيجابية ومفيدة، محاولة الحكومة السورية، التواصل معه، ودعوته للاستثمار في بلده الأم. وأن يكون له موطئ قدمٍ فيها. فسوريا المقبلة على حركة إعادة إعمار كبيرة، ستجد في تجربة الطراد الغنية في قطاع البناء ومستلزماته، مكسباً لها. كما أنها ستسترد واحداً من أبنائها الذين أبعدتهم عنها، بقسوة، في يومٍ من الأيام.
التعليق