"أبو علي" و"المَرضِي عليهم"...تجربة "مُراجع" في السفارة السورية بالقاهرة

يتميز "أبو علي" بلكنته الساحلية التي يتباهى باستخدامها أمام المراجعين من السوريين، وبمؤهلات بدنية عالية، وبسطوة ملحوظة في محيطه المهني، لكنها من نوع السطوة التي ما تزال محببة لدى بعض السوريين، أولئك الذين ما يزالون يتقبّلون بكل ارتياح تسهيل الإجراءات المعتمدة قانونياً مقابل مبلغٍ خاصٍ، لم يعدّ يُدس في جيبة الموظف، بل بات يعدُّه علناً أمام باقي الزملاء.

"لم ألقَ هذه المعاملة بدمشق، لقد سارت الأمور على ما يرام". هكذا وصف فؤاد تجربته مع "تمديد" جواز سفره بالسفارة السورية في القاهرة، موضحاً أنه كان يبذل جهداً ووقتاً أكبر لإتمام المعاملات الرسمية بدمشق، قبل أن يغادر إلى مصر.

فؤاد الذي فقدَ بيته جراء الحرب الدائرة بين النظام والمعارضة المسلحة في أحد بلدات ريف دمشق، عقّب لـ "اقتصاد" قائلاً: "رغم الازدحام وأعداد المراجعين الضخمة، إلا أن فريق موظفي السفارة يعمل بصورة حثيثة على إنجاز أوراقك في الوقت المناسب".
عاش فؤاد لعدة أسابيع كابوساً بسبب مخاوفه من المصاعب التي سمع عنها، والتي قد تواجهه بالسفارة السورية في القاهرة، بعد أن انتهت مدة صلاحية جواز سفره مؤخراً.

"بدايةً، أخبرني الأصدقاء أن أحذر في استخدام المصطلحات، فعليّ أن أخبرهم أنني أريد تمديد جواز سفري، وليس تجديده، وإلا فإن المعاملة الرسمية ستنحو منحى آخر غير ذاك الذي أحتاجه".

وصل فؤاد القاهرة قادماً من السويس، مقر إقامته، قرابة الساعة الثانية فجراً، ونزل قرب ميدان التحرير، وهناك، وبين الأزقة المؤدية إلى الحي الذي تقبع فيه السفارة السورية، سار ليلاً، وكاد يدخل أحد الشوارع المقفلة، لكن عناصر أمنية مصرية منعته، ومن ثم حددت له مساراً كي يصل إلى مبنى السفارة، وكان عند المبنى في تمام الثالثة فجراً. هناك التقى بضابط الأمن المصري المخوّل بحراسة السفارة. سجّل اسمه في ورقة ضخمة من صفحتين، وحينما نظر إلى حجم الورقة وكمّ الأسماء المسجلة قبله، اعتقد أن هناك المئات ممن سيسبقونه في الدور، مما سيقلل من فرص نجاحه في الوصول إلى غرضه، ويتطلب منه بذل يومٍ آخر بهذه الغاية، وهو القادم من محافظة مصرية أخرى. لكنه اكتشف لاحقاً أن المعاملات تُفرز حسب غايتها، وأن المسجلين لم يأتوا جميعاً لتمديد جواز السفر، فهناك عشرات أنواع المعاملات الأخرى التي يراجع سوريون من أجلها السفارة بالقاهرة يومياً.

"سجّل موظف الأمن اسمي، وأخبرني أنني أستطيع أن أذهب إلى قهوة قريبة، فهناك يجلس الكثير من أقراني السوريين، الذين أتوا ليسجلوا أسمائهم في الدور. وبالفعل التقيت بمجموعة من السوريين تزايدت مع تقدم ساعات الفجر، حتى حوالي السابعة صباحاً، حيث فُتحت بعض الكوات، وبدأ بعض الموظفين المصريين العاملين بالسفارة بالتواصل مع عشرات السوريين الذين بدأوا يصطفون قرب البوابة".

صنّف الموظفون الأسماء المسجّلة حسب الغرض من المراجعة، وبدأوا ينادون على الأسماء وفق هذا المبدأ، ففُوجئ فؤاد أن اسمه كان الخامس فقط، ودخل مبنى السفارة في التاسعة والنصف صباحاً، وهناك قدم كل الأوراق المطلوبة للتمديد، ودفع 200 دولار، التكلفة المحددة لهذا الهدف، والمسجلة في لوحة خاصة على جدار السفارة الخارجي.

بعد أن سلّم كامل أوراقه، أخبرته الموظفة المصرية أن عليه أن يراجعهم لاستلام جواز السفر المُمدّد بعد 15 يوماً، لكن فؤاد قرر سلوك طريق "أبو علي"، الذي نصحه به بعض المعارف من السوريين ممن كان لهم تجارب سابقة في السفارة. وتوجه إلى الرجل الذي عرفه على الفور، من حركته المُزدانة بسطوة واضحة، ومن لهجته المميزة. تحدث معه برفق آملاً أن يحظى "برضاه"، فهو لا يريد أن يعود إلى السويس ليقضي 15 يوماً دون جواز سفر وسط كثرة الحواجز والاضطرابات الأمنية.

"طلب أبو علي مني 300 جنيه مصري مقابل الحصول على جواز السفر بعد يومين، وحينما عرضت عليه 500 جنيه على أن يعطيني الجواز اليوم، أخبرني بأن ذلك غير متاح، وأن علي أن أرجع بعد يومين، وبالفعل دفعت لـ أبو علي المبلغ".

بعد يومين عاد فؤاد إلى القاهرة، وكان قد تأخر في الخروج من السويس فوصل القاهرة وقت الذروة، بكل ما فيه من ازدحام كارثي في القاهرة، وفي شوارع قلب المدينة المكتظة بالناس وبالسيارات، فتأخر، وعَبَر عدة شوارع في قلب العاصمة المصرية جرياً حتى وصل إلى السفارة قبيل إغلاقها بدقائق، وهو يتوقع أن يعتذر الموظفون عن تسليمه جواز السفر، لكن "أبو علي" استقبله وطلب من موظف مصري أن يفتح الخزنة الخاصة بجوازات السفر التي كانت قد أُغلقت بالفعل إيذاناً بانتهاء الدوام الرسمي، وسلمه جواز السفر، وأحضر له كرسياً ليستريح عليه قليلاً، قبل أن يغادر السفارة السورية مُغتبطاً لزوال هذا الهم الثقيل عن كاهله.

قصّة فؤاد التي رواها لـ "اقتصاد"، لم يعارضه أحد، ممن تحدثنا إليه من السوريين، حول تفاصيلها، فكلهم أقروا بأن "أبو علي" وباقي كادر السفارة يعاملون السوريّ بتقدير مقبول إذا توافر فيه شرطان اثنان: الأول، ألا يكون من "المغضوب عليهم" أمنياً، الثاني، أن يدفع المعلوم لـ "أبو علي" الذي يحصّل مبالغ طائلة من مئات المراجعين يومياً، لا بدّ أنه يقتسمها مع باقي زملائه، ناهيك عن رؤسائه في السفارة.

وفي هذا السياق، تحدثت "اقتصاد" إلى ناجي، الذي كان له تجربة مماثلة لـ فؤاد مع فارقٍ دقيقٍ، أنه كان قد خرج من سوريا عبر الحدود التركية، وعلى جواز سفره خِتمٌ للجيش الحر، حينما رأه الموظف المسؤول في السفارة السورية بالقاهرة تجهم وجهه، وسأله: "ما هذا؟،....ما رأيك بأن (أشقّ) لك جواز سفرك هذا،....ولتستصدر آخر من الجيش الحر (تبعك)".

أخبرنا ناجي أنه فضّل السلامة حينها، لذا "تذلل" موضحاً أنه لم يكن لديه سبيل آخر للخروج من سوريا إلا عبر المعابر الشمالية التي هي تحت سيطرة "الجيش الحر"، وأنه ليس مع المعارضة، بل هو مؤيد للنظام، لكن لم يكن لديه حلول أخرى. فظهرت الغبطة على وجه الموظف الذي قال له بشيء من (المنيّة): "لكلامك هذا فقط سأتجاوز الأمر". وأتمم معاملته بنجاح.

أخبرنا ناجي أنه فضّل هذا الأسلوب للنجاة من مصير أحد معارفه الذي (أُعمي على قلبه)، فدخل السفارة وهو يلبس (خلعة) الجيش الحر في معصمه، وقد نسي الأمر تماماً، وحالما انتبه الموظفون السوريون لذلك، استلم أحدهم منه جواز السفر، ومزّقه بالفعل، وطلب منه أن يحصل على جواز سفر آخر من "الائتلاف".

تتحدث بعض التقارير عن معاملة "مُذلة" يتعرض لها السوريون أثناء مراجعتهم للسفارة السورية بالقاهرة، لكن فؤاد ينفي ذلك تماماً، وهو يؤكد بأن الازدحام وتسجيل الأسماء بالدور، والاضطرار إلى القدوم منذ الفجر لحجز الدور، هو نتيجة كثرة المراجعين، نظراً لأعداد السوريين الضخمة في مصر، وعدم وجود مرجع لمعاملاتهم الرسمية إلا السفارة السورية بالقاهرة، وهو يعتقد أن ما مرّ به من صعوبات لتمديد جواز سفره هناك كان محدوداً إذا ما قارنه بما سمع من أقارب له حول "أهوال" استصدار جواز سفر جديد من إدارة الهجرة والجوازات في العاصمة دمشق.

في نهاية المطاف، يبقى "أبو علي" نموذجاً لشخصيات النظام الذين يعاملونك بـ "منيّة" إن قاموا بواجبهم، ويقدّرونك أكثر حينما تدفع المعلوم، شريطة ألا تكون، بطبيعة الحال، من "المغضوب عليهم".

وربما يكون فؤاد بدوره نموذجاً لكثير من السوريين الذين ألِفوا هذا النوع من التعامل من جانب مسؤولي وموظفي النظام، حتى بات الأمر عادياً للغاية بالنسبة لهم، والأهم، أنهم تعودوا تجاوز الإجراءات المُعتمدة قانونياً، عبر مبلغٍ يُدس في جيبة الموظف.

"أبو علي"، حسبما أكد لنا فؤاد، عدّ الـ 300 جنيه علناً أمام باقي الزملاء والمراجعين. فالرشوة في "سوريا الأسد" عُرف يلقى الترحيب من جانب الكثير من السوريين الذين عوّدهم نظام الأسد في عدة عقود، أن يقولوا للمرتشي "شاطر"، ومن ثم أنساهم الكثير من القيم من قبيل "المال الحرام"، أو "إهدار مال الدولة"، أو "اقتناص حقوق الغير أو أدوارهم".

لا نعرف إن كان الحجم الأكبر من اللوم يجب أن يقع على فؤاد، أم على "أبو علي"، لكن ناجي ذاته، الذي قرر التبرّؤ من قناعاته لحظة اضطر، مثالٌ آخر لنمط المواطن الذي يبتغيه نظام الأسد، ذلك الذي يعتمد مبدأ "ما دخلني"، وقاعدة "امشي الحيط والحيط وقل يا رب السترة"، دون أن ننسى "ذهبية" الحياة لدى سوريي "سوريا الأسد" والتي تتلخص في مقولة "اللي بيتزوج أمي بصير عمي".

ويبقى السؤال: ما مصير جوازات سفر "المغضوب عليهم" في حال انتهت صلاحيتها، وتجهم وجه موظف السفارة السورية بالقاهرة إزاءها؟

ترك تعليق

التعليق