العمل بالمحارق النفطية ضرورة معيشية في شمال شرق سوريا

سكان محافظة الحسكة يلجأون للعمل في المحارق النفطية البدائية، رغم أضرارها الصحية والبيئية، لتوفير لقمة العيش لأبنائهم في ظل أوضاع اقتصادية مزرية.

***

سوريا التي اشتهرت باكتفائها الذاتي في الكثير من مناحي الحياة، وبانخفاض تكاليف المعيشة، تحولت اليوم إلى جحيم لأبنائها التائهين ما بين نازحين، وقاطنين أصليين باحثين عن لقمة العيش، بعد أن تقطعت بهم السبل بعد الثورة التي اندلعت في البلاد في عام 2011.

إحدى وسائل كسب الرزق، التي امتهنها السوريون بعد الثورة، هي العمل في المحارق النفطية البدائية المنتشرة في محافظة الحسكة (600 كلم شمال شرق دمشق)، جنوب ما يعرف اليوم بمقاطعة "الجزيرة" بعد إعلان الأكراد الإدارة الذاتية لهذه المنطقة، حيث يعيش عشرات الآلاف من السوريين في ظروف مزرية، وأوضاع اقتصادية صعبة.

والمحارق النفطية هي آلات بدائية تستخدم في تكرير النفط الخام لاستخراج بعض المشتقات مثل البنزين والمازوت بشكل رئيسي.

ويمارس هذا العمل الصعب، مستثمرون وعمال وأصحاب شاحنات وباعة على أطراف الطرقات، منتجين المشتقات النفطية، مثل البنزين، والمازوت، والكاز، والتي تباع إلى تجار مهيمنين على تلك السوق السوداء، والذين يبيعون بدورهم ما ينتج من هذه المحارق إلى مدن محافظة الحسكة التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وإلى داخل المناطق التى يسيطر عليها تنظيم "داعش" في سوريا والعراق.

وبالتزامن مع اندلاع الانتفاضة الشعبية بسوريا في مارس/ آذار 2011 ضد نظام بشار الأسد في سوريا، قام حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري بتأسيس قوات سميت وحدات حماية الشعب، والتي بسطت سيطرتها على المناطق الكردية في سوريا "الجزيرة" و"كوباني" و"عفرين" شمالي سوريا، وتديرها إدارات ذاتية محلية باسم مقاطعات.

ورغم أنها تمثل فرصة عمل لسكان المنطقة إلا أن العاملين في تلك المحارق قالوا في أحاديث لمراسل الأناضول، إنها تتسبب بتلوث بيئي هائل ومشاكل صحية جسيمة في المناطق التي تتواجد فيها والمناطق المحيطة بها، ومؤكدين في الوقت ذاته أن المئات أصيبوا بأمراض مختلفة كالربو والتسمم والأمراض الجلدية بسبب تأثيرات تلك المحارق.

وأضافوا أن تخوفهم الأكبر يكمن في أنها قد تسبب أمراض سرطانية، فضلا عن تأثيرها المدمر على المنتجات والأراضي الزراعية في المستقبل.

ولم تسعى حتى الآن أي جهة في المناطق التى تنشنر فيها هذه المحارق النفطية، للسيطرة على هذه الظاهرة في ظل تأثيراتها السلبية الخطرة على البيئة والصحة، وذلك بالرغم مما يقال عن سن العديد من القوانين المتعلقة بهذا الشأن تحديدا من قبل الجهات المعنية في مقاطعة الجزيرة.

وعن الأسباب التي أخرت تطبيق تلك القوانين، قال أحد مسؤولي المنطقة إنه لا يمكن إيقاف عمل المحارق النفطية لحاجة المنطقة إلى تلك المشتقات المنتجة من تلك المحارق، وذلك لعدم قدرة حكومة المقاطعة على توفير المنتجات البترولية اللازمة للمواطنين بسبب الحصار التي تعيشه المقاطعة.

وأضاف المصدر الذى رفض ذكر اسمه، في حديثه لوكالة لأناضول، إن الحصار المضروب على المنطقة زاد بعد إغلاق معبر ربيعة الحدودي بين سوريا والعراق، نتيجة سيطرة داعش على طريق الموصل المؤدي إلى مصفاة بيجي العراقية، والتي كانت أحد موارد إمداد المقاطعة بالمشتقات النفطية، وكذلك غلق معبر (سيمالكا - فيشخابور) الحدودي بين إقليم كردستان العراق ومقاطعة الجزيرة، بسبب الخلافات السياسية بين الجانبين، هذا إلى جانب سيطرة "داعش" على كافة الأراضي المحيطة بمقاطعة الجزيرة من الجنوب في الداخل السوري.

وأوضح المصدر أن السبب الآخر لعدم إيقاف هذه المحارق، هو عدم قدرة السلطات المعنية في المقاطعة بتوفير فرص عمل كافية في المنطقة، حيث توقف الآلاف من الموظفين الحكوميين المؤقتين من سكان المنطقة عن العمل في الدوائر الحكومية الرسمية السورية بعد الثورة، وذلك نتيجة إيقاف الحكومة المركزية للرواتب الشهرية.

وقال صالح محمد صالح، من قرية تل مشحن، وهو أحد المستثمرين في تلك المحارق، إنه لولا لجوء البعض إلى شراء النفط الغير شرعي من الحقول التي تسيطر عليها وحدات حماية الشعب، لتكريره في هذه المحارق النفطية، لتحول معظم القاطنين في هذه المنطقة، الى متسولين وجماعات مسلحة اجرامية ولصوص.

وأضاف صالح في حديثه لمراسل الأناضول، أن الاستثمار فى تلك المحارق يتسم بمردود مادي "جيد"، مشيرا إلى أن المحرقة النفطية التي يمتلكها تقوم بحرق 10 براميل نفط خام يوميا كلفة البرميل 3500 ليرة سورية (17 دولار) وتنتج بعد الحرق برميل بنزين، وبرميلى كاز، و4 براميل مازوت يوميا.

وأشار صالج إلى أن المستثمر المحلى في المحرقة النفطية يجنى ما يقارب 20 الى 30 ألف ليرة سورية (100 إلى 150 دولار) يوميا من عمل هذه المحارق.

وتتنوع أعمار العاملين في تلك المحارق النفطية بين مختلف الفئات العمرية، واللافت أن العديد من أولئك العاملين هم من الحاصلين على شهادات جامعية، وشهادات عليا من كليات مثل الحقوق واللغات والعلوم الاجتماعية، كما أن بينهم طلبة جامعيين توقفوا عن اكمال دراستهم بسبب تدمير جامعاتهم في بعض مناطق النزاعات، حيث توقفت العملية التعليمية فاضطروا للجوء للعمل لسوء أوضاعهم المادية، بسحب ما نقله مراسل الأناضول.

أنس، الذى يبلغ من العمر 21 عاما، أحد أولئك العاملين، قال إنه كان طالبا جامعيا في كلية الحقوق، ولكنه توقف عن إكمال دراسته وهو في سنته الثالثة، بسبب الأوضاع التي تمر بها البلاد، ولجأ إلى العمل في أحد المحارق النفطية، التي لم يكن يتخيل أن يعمل بها يوما، لأن والده كان موظفا حكوميا يتقاضى راتبا يكفي أسرتهم قبل الثورة، لكن أوضاع البلاد أجبرته على اللجوء إلى هذا العمل، والذي لم يكن موجودا قبل الثورة، وهو يتقاضى في الأيام التي يعمل فيها 6 آلاف ليرة سورية (حوالى 20 دولارا).

وأضاف أنس في حديثه لوكالة لأناضول عن خوفه الشديد، من تأثير تلك الأدخنة الناتجة عن عمل المحارق، على الاراضي الزراعية في تلك المنطقة وعلى صحة القاطنين والعمال.

وقال سالم حسن محمد، من قرية باقلا، وهو رب أسرة يعمل في أحد المحارق النفطية قال لوكالة الأناضول، إنه لجأ إلى هذا العمل لتأمين القوت اليومي لأبنائه، مشيرا إلى أنه في هذه المنطقة لا توجد عائلة إلا وفيها شخص أو اثنين يعملون في حرق النفط بسبب انقطاع سبل العيش.

وكانت الدولة السورية تنتج من حقول رميلان النفطية (شمال شرق) ما يزيد عن 250 ألف برميل نفط يوميا، حيث توجد في تلك الحقول 1200 بئر نفطي تصل طاقتها الانتاجية القصوى الى 750 ألف برميل وفق دراسات غير رسمية.

وتوقفت معظم هذه الآبار عن العمل بعد الثورة، نتيجة للظروف الأمنية والعقوبات الاقتصادية الغربية التي فرضت على القطاع النفطي في البلاد، مما أدى الى مغادرة معظم الشركات النفطية للبلاد وتوقف تصدير النفط الى الخارج.

وتشير تقارير منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، أن مخزون سوريا النفطي يبلغ حوالي 2.5 مليار برميل، منها 800 مليون برميل في المناطق ذات الغالبية الكردية، وقبل اندلاع الصراع في آذار/مارس عام 2011، كانت صادرات سوريا النفطية تبلغ 3.1 مليار دولار سنويا.

ترك تعليق

التعليق