تسول جماعي.. وبلاد برسم الإعاقة والضياع

لا تمد يدها لأحد.. ولا تتوسل العابرين من أمامها، فقط تحتضن بناتها الثلاث عند كلية الحقوق، وهذه السنة الثانية لها هنا، تضع أمامها علب المحارم والبسكويت والكبريت، فالله، كما قالت، يرزق عباده الصالحين، والخير ما يزال يسكن في الشام رغم كل الدم.

رجل آخر مع ولدين ينتقل بين سوق الشيخ سعد في المزة، وشارع خالد بن الوليد وسط العاصمة، بنفس الطريقة، يسامر ولديه، والناس تضع ما يفيض عنها في سبيل الله، وهو لا يعمل لأنه لا مكان آمن يضع فيه أولاده فيما ينتهره بعض المارة، لماذا لا تعمل.. كل أوضاعنا سيئة مع ذلك نعمل لنعيش؟

أسر تتسول

قادهم الموت ودمار البيوت إلى شوارع العاصمة، ولا أحد منهم كان يتمنى أن يكون بيته الرصيف، وأسر بكامل أفرادها تشردت في الحدائق، وأمام المساجد، وعلى أرصفة الشام، وهي التي كانت في أصعب أوقاتها تعيش في بيوت تقيها من البرد وذل مد اليد للآخرين.

في حديقة الجلاء المحاذية لفندق الفورسيزن، ثمة عائلات كثيرة تتخذ من الأشجار وبعض الشراشف بيوتاً تقيها من الحر صيفاً، وفي الشتاء تدعو ربها بقلة المطر، ولكنها في أسوأ حال تغادر بيتها الصيفي إلى أمكنة أخرى ربما بيوت غير مكتملة الصيانة أو محال تجارية، وتعيش على حسنات المارة والسكان القريبين، وبعضهم اشترى عدة مطبخ ليصنع ما يحب.

في الحديقة التي لا تبعد عنها كثيراً، عائلات امتهنت التسول من المرتادين، والباحثين عن جلسة هادئة، وفجأة يحضر المتسولون بورودهم وهداياهم الخفيفة، وقطع البسكويت ليعرضوها على العشاق.

جدة وحفيداتها

في البرامكة والحلبوني، تقف الجدة محاطة بصبيتين أعمارهن بين العاشرة والثانية عشر، تبكي وتضع يديها الاثنتين على كتفي الفتاتين مستذكرة آيات الله والأدعية التي تحض الناس على الدفع، الجدة عند الظهيرة تأخذ حفيدتيها إلى بائع الفطائر وتشتري لهن فيما يبدو ما يشتهين من طعام حرمن منه لأوقات طويلة.

العجوز القادمة من ريف دمشق حيث تسكن، والمهجرة من ريف إدلب باحثة عن مأوى لبنات ابنها الذي استشهد في قصف النظام على البيوت الآمنة في قريتها في جبل الزاوية، تقول: "كان عندي بيت كبير وبستان وشباب يملؤون البيت بأصواتهم العالية.. مات من مات، وآخرون في سبيل الله؟".

دخلاء أيضاً في التسول

في هذه الفوضى التي تعيشها البلاد والزحام الذي يضغط على العاصمة من كثرة المهجرين والهاربين إلى الشوارع، اتسع المجال أمام ممتهني التسول للدخول إلى عالم المهجرين، وإدعاء أنهم من (حمص وإدلب)، نظراً للتعاطف الكبير من أبناء الشعب السوري مع هاتين المدينتين، والبعض يمسك وصفات الدواء ويدور بها، ونسوة يدعين تقطع السبل بهن وهن أم مع ثلاث بنات يقطعن المدينة شارعاً بعد آخر، ومحترفون يدعون العجز أو يستأجرون من لديهم عاهات لابتزاز العطف والمال.

علبة حليب.. ورصيف

هنا، على الرصيف، تربت إحدى صغيرات الأم التي لا تمد يدها لأحد.. وكبرت هنا، ربما ستعرف طريقها إلى التسول، إن لم ينقذ العائلة أحد أو استمرت الحال المأساوية وقتاً أطول.

هنا على الرصيف، كانت الأم تصنع وجبة الحليب لابنتها الرضيعة، وهنا يضيع جيل على الرصيف، وبلاد تنزف أجيالها في جهات الأرض، إم مهاجرين أو مهجرين، هذا عدا عن مئات ألوف القتلى والمعاقين.. أي وطن سيكون بعد سنوات الدم والقهر.