خارطة رجال الأعمال السوريين.. الجزء الأول


احتلت حرفتا التجارة والصناعة شأناً كبيراَ في المجتمع السوري على مر العصور، ويمتلك سكان بلاد الشام منذ القدم مهارة وموهبة في هاتين الحرفتين أكسبتهم شهرة على مستوى المنطقة والعالم. ولطالما لعب التجار والصناعيون دوراَ حيوياَ في المجتمع السوري وعلى كافة المستويات (إجتماعية، سياسية، اقتصادية….).

مع إنطلاق الإحتجاجات المطالبة بالحرية في العام 2011، اضطر العديد من رجال الأعمال السوريين الى التحرك نحو بيئات أكثر استقراراَ حفاظاَ على استثمارتهم. وسنحاول في هذه الدراسة تسليط الضوء على خارطة توزع رجال الأعمال السوريين في دول اللجوء ورصد المناخ الاستثمارى في كل دولة في الجزء الأول من هذه الدراسة، على ان يركز الجزء التالى منها على الدور المنوط برجال الاعمال السوريين خلال هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ سوريا ومستقبلاَ باعتبارهم فئة مؤثرة داخل المجتمع السوري.

وفقا لآخر إحصائية في العام 2010، وقبل الأزمة السورية، بلغ عدد رجال الأعمال السوريين في القطاع الخاص 213.094 شخصاً، بينهم 6.584 امرأة، علماً ان القطاع الخاص ساهم بنسة 60% في رأس المال الثابت في البلاد، وبما يوازي 70% من الناتج المحلي الاجمالى، و 79.4% من الصادرات غير النفطية، و74.7%من الواردات، بالإضافة الى المساهمة بتوفير فرص عمل لحوالي 3.7 مليون يد عاملة وفقاً لآخر إحصاءات العام 2010 .

مع دخول العام 2011، وتطور الازمة السورية وتصاعد الصراع، تعرضت الكثير من المؤسسات والمنشأت الصناعية الى تدمير ممنهج، مما دفع العديد من رجال الأعمال السوريين للبحث عن بيئات استثمارية أكثر أمناً واستقراراً في دول الجوار، حيث وصل عدد رجال الاعمال اللذين غادروا سوريا بحسب تصريحات رئيس غرفة صناعة دمشق الى 150,000 رجل أعمال، مما يُؤشر للكارثة التي حلت بالقطاع الخاص في البلاد، فيما صرح مدير هيئة الإستثمار السورية لوكالة الآناضول” إن حجم الاستثمار السوري بالخارج يتراوح ما بين 70 و100 مليار دولار، وتقدر نسبة الإستثمارات التى فرت من سوريا بأكثر من 70% من إجمالي الإستثمارات الموجودة بالسوق المحلية “، موضحاً ان هذه الاستثمارات توجهت الى عدة بلدان مجاورة أهمها الأردن، لبنان، تركيا، مصر بالإضافة إلى دول الخليج العربي.

عوامل عدة رسمت خارطة تنقل الإستثمارات السورية وتوجهها نحو الخارج، والتي اصطدمت بالعديد من الصعوبات والقوانين التي حدت من نموها.

التوجه نحو مصر

في بدايات الأزمة، شكلت مصر الوجه المفضلة للعديد من رؤوس الأموال والاستثمارات وخاصة الصناعية منها والتي ترتكز في الشمال السوري، وربما كان السبب الرئيس نحو هذا التوجه، هو العلاقات الاقتصادية والعائلية الموجودة اصلاً بين البلدين منذ عقود بالإضافة الى عدم وجود عوائق بالنسبة الى تأشيرات الدخول الى مصر بالنسبة الى السوريين في بداية الازمة، الأمر الذي تغير فيما بعد وأصبح غاية في التعقيد.

في شهر يونيو من العام 2012، بدأت حركة المستثمريين السوررين باتجاه القاهرة، وفي أكتوبر من نفس السنة أعلنت لجنة الاستثمار المصرية ان عدد المستثمريين السوريين في مصر وصل الى 42.600 مستثمر، أي مايمثل 20% من المستثمريين في سوريا. فيما أعلنت نيفين الشافعي نائب رئيس هيئة الاستثمار المصرية أن “15 ألف مستثمر سوري يضخون استثمارات في مصر في قطاعات عدة أهمها وأولها قطاع الصناعات الغذائية الذي يستحوذ على نصف الاستثمارات السورية في مصر تقريبا”.

في كانون الثاني 2013، تم لقاء ضم 25 من رجال الأعمال السوريين من جهة والحكومة والرئيس المصري من جهه أخرى، تعهد فيه المستثمرون السوريون باستثمار ما يقارب 10 مليار دولار امريكي في قطاعات صناعية مختلفة أهمها (الغزل والنسيج، الالمنيوم، الصناعات الغذائية)، فيما قامت الحكومة المصرية من جهتها بتأسيس منطقة صناعية حرة تُقدم أراضيها للسوريين مجاناً. إلا ان التحولات السياسية التي شهدتها الساحة المصرية حالت دون استكمال ذلك.

أبعد من ذلك بدأ المستثمر السوري بمواجهة صعوبات في استخراج تراخيص للمنشآت في المدن الصناعية المصرية، يضاف إليها الصعوبة في الحصول على إقامة دائمة للمستثمر وذويه، ناهيك عن المضايقات التي يتعرض لها السوريون على المستوى الاجتماعي بالرغم من المساهمة الفعالة للوجود السوري في تنشيط حركة الأسواق وتوفير فرص عمل، كل هذه العوامل انعكست سلباً على المستثمرين السوريين في مصر، وبدأ العديد منهم بالتفكير جدياً بالمغادرة الى بيئة أكثر أمناً واستقرارأُ.

الأردن الحديقة الخلفية لسوريا

شكلت الأردن ملاذاً آمنا للعديد من المستثمريين السوريين المتواجدين في الجنوب السوري تحديداً، نظراً للموقع الجغرافي القريب بالإضافة العلاقات الاجتماعية الوثيقة التي تجمع البلدين. ولعبت الحكومة الأردنية دوراً بارزاً في جذب هذه الاستثمارات من خلال منح المستثمريين بطاقة مستثمر، حيث أعلن مجلس رئاسة الوزراء في بيان له انه ” تم وضع آليات لتسهيل دخول المستثمريين السوريين واعتماد البطاقة التعريفية الصادرة عن مؤسسة تشجيع الاستثمار للمستثمريين السوريين على الأراضى الأردنية”، وظهر الأثر الإيجابي لهذا التوجه حيث شكلت الاستثمارات السورية حتى أيلول 2013, مابين 12 و15%من اجمالى الاستثمارات الأجنبية في الأردن والتي بلغت مليار دولار امريكى.

كذلك أقرت الحكومة عدة قرارات بناء على مذكرة رفعتها وزارة الداخلية الأردنية الى لجنة التنمية الاقتصادية والمتعلقة بالتجاوب مع مطالب المستثمريين السوريين والتي من أبرزها السماح باستقدام العمالة السورية بنسبة تصل الى 60% للمصانع في المدن الصناعية، والأطراف خارج مراكز المحافظات ووفقاً للاحتياجات التنموية للمحافظات.

ساهم هذا المناخ الاستثماري الجيد والبيئة الجاذبة للمشاريع الاقتصادية الى انتقال 350 منشأة صناعية سورية للعمل في الأردن، فيما وصل عدد الشركات السورية المسجلة رسميا في القطاع الصناعي خلال الربع الأول من عام 2013، الى 1047 شركة، في حين بلغ عدد الشركات المسجلة الى 1161 شركة تجارية، 78 شركة زراعية، 68 شركة مقاولات وأخيراً643 شركة خدمات.

ومازال المستثمرون السوريون يعملون بالتعاون مع الحكومة الأردنية لتذليل العقبات الإدارية والفنية لضمان تيسيير إقامة المشاريع.

دول الخليج العربي الأرض المحرمة

اصطدم السوريون منذ بدايات الازمة السورية بقرارات صدرت عن دول الخليج تمنع السوري ليس من العمل فيها فقط بل وحتى من الزيارة، وعليه فإن حجم الإستثمارات السورية التي توجهت للخليج اقتصرت على فئات معينة من المستثمريين المتواجدين أصلاً في تلك الدول من قبل الأزمة السورية. عدا دولة الإمارات العربية المتحدة التي استقبلت عدد قليل من المستثمرين السوريين الذين دخلوا البلاد بصفة مستثمر وأسسوا سجلاتهم التجارية والصناعية منذ البداية، ولغاية الآن مازالت دولة الإمارات تتبع هذا الإجراء. في حين استطاع عدد قليل جداً من الصناعيين السوريين من دخول سوق الاستثمار السعودي بشراكات مع مستثمرين سعوديين واستطاعوا تأسيس مصانعهم من جديد بإستثمار جديد.

تركيا الصدر الأوسع

شكلت تركيا الملاذ الآمن للآلاف من السوريين خلال الأزمة الحالية، حيث بلغ عدد السوريين المتواجدين على الأراضي التركية حوالى 1.900.000 سوري، وبسبب الإرث التاريخي الثقافي والإجتماعي الذي يجمع الشمال السوري بالمناطق الجنوبية لتركيا، نجد ان نشاط المستثمريين السوريين كان الأبرز في هذه المناطق (شهدت بعض المصارف التركية في الجنوب المحاذي للاراضى التركية زيادة ملحوظة في كمية العملة الصعبة التي تم ايداعها من قبل السوريين)، بالإضافة الى نشاطهم المكثف في العاصمة استنبول التي تعتبر نافذة تركيا على العالم ووجهة العديد من المستثمرين العرب.

يعود سبب إقبال السوريين على الإستثمار في تركيا إلى المناخ الاستثماري الجاذب الذي تؤمنه تركيا للمستثمرين الأجانب بشكل عام، حيث تساوي القوانين بين المستثمر التركي والأجنبي، ولما يلاقيه السوريون من تسهيلات على وجه التحديد، حيث تم اعفاءهم من الضرائب حتى حزيران 2016، فضلاً عمّا تشهده تركيا من تطور اقتصادي وجذب للشركات العالمية الكبرى، حيث تعد تركيا من المراكز التجارية الكبرى بالعالم. فقد أعلنت وكالة الأناضول في تموز الماضي، أن المستثمرين السوريين حازوا على ثلث الشركات ذات الرأسمال الأجنبي في تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من العام 2015، وأنهم ساهموا في تأسيس 750 شركة من أصل 2395 خلال الفترة المذكورة بحسب أرقام اتحاد الغرف والبورصات التركي، و أعلن اتحاد الغرف التجارية التركية أن عدد الشركات التي أسسها مواطنون سوريون حتى شهر تشرين الأول من عام 2015 بلغ 1284 شركة، وكانت الغرفة التجارية في اسطنبول كشفت في شهر آذار 2015 الى انه من أصل 750 شركة أسسها السوريون خلال النصف الأول من 2015، يوجد حوالى 12 شركة قابضة، حيث تصدر السوريين قائمة المستثمرين الأجانب في تركيا بنسبة تصل الى الثلث في النصف الأول من العام المنصرم.

وتنوعت مجالات الاستثمارات السورية في تركيا لتشمل التجارة العامة، المطاعم، ورشات النسيج، وكالات السياحة، وربما قطاع البناء والمكاتب العقارية هي من اهم القطاعات التي استثمر بها السوريون في تركيا نظراً للإقبال الكبير على شراء العقارات من قبل المستثمرين العرب حيث استفاد السوريون من علاقاتهم وتواصلهم مع أشقائهم العرب لإنجاح استثماراتهم.وربما سيكون لافتتاح المنطقة الحرة السورية التركية في المستقبل القريب تأُثيرا واضحا على خارطة الاستثمارات السورية التي تسعى للتوسع والتحرر من القيود، وستفتح المجال لانتقال العديد من الاستثمارات السورية من بيئات غير مستقرة الى تركيا.

تجدر الإشارة أن الحكومة التركية وابتدءاً من 8 كانون الثاني 2016، فرضت تأشيرة دخول على السوريين الراغبين بالدخول الى تركيا، بالتزامن مع فرض قيود مماثلة من قبل الدول التي لجأ اليها السوريون في بداية الأزمة دون أن أي عوائق، مما سيؤدى الى إحداث تغيرات جوهرية في خارطة الاستثمارات السورية.

وكما ذكرنا آنفاَ سوف يركز الجزء التالى من الدراسة على الدور المنوط برجال الاعمال السوريين خلال فترة الصراع، ومستقبلاً في مرحلة إعادة البناء.

ترك تعليق

التعليق