الاقتصادي حافظ الأسد.. أزمة الثمانينيات الاقتصادية، أسبابها ونتائجها


دخلت سوريا العام 1980 وسط قرار غريب لحافظ الأسد، أعلن فيه تأييده للثورة الخمينية في إيران ودعمها والوقوف إلى جانبها في وجه العراق والدول الخليجية التي قررت التصدي للمشروع الإيراني بتصدير الثورة وإثارة القلاقل بحجة حماية الشيعة الذين يعيشون في الدول العربية.

لقد كلف القرار سوريا في ذلك الوقت توقف جميع المساعدات الخليجية المالية، والتي كانت تقدر بأكثر من مليار ونصف المليار دولار سنوياً. ولعبت هذه الأموال دوراً كبيراً على مدى أكثر من عشر سنوات، في حماية الاقتصاد السوري من الانهيار في أعقاب حربين مدمرتين، في عام 1967 وعام 1973.

وقامت إيران بتعويض سوريا عن المساعدات الخليجية، بمنحها 100 ألف برميل نفط يومياً، كان حافظ الأسد، وبدل أن يضخها في الاقتصاد، يبيعها في الأسواق العالمية، ويضعها في حساب خاص باسم ابنه باسل. وهي الفضيحة التي تكشفت خيوطها بعد موت باسل في العام 1994، إذ تبيين وجود مبلغ 13 مليار دولار باسمه في أحد البنوك النمساوية، في وقت مرت فيه سوريا بسنوات عصيبة في الثمانينيات، ومطلع التسعينيات، إذ كانت الموازنة العامة للدولة كلها لا تتجاوز الـ 1.5 مليار دولار.

وبكل الأحوال، يبقى مهماً التعرف على تفاصيل تلك المرحلة، وكيفت دخلت سوريا مطلع العام 1980 وسعر الدولار نحو 5 ليرات سورية، بينما بدأت العام 1990 وسعر الدولار أكثر من 35 ليرة، مع مؤشرات اقتصادية خطيرة، عن معدلات النمو والإنتاج.

رجال حول الأسد

أحاط حافظ الأسد نفسه منذ توليه السلطة في العام 1971، برجالات ظل، تولوا مناصب كانت تبدو للعيان هامشية، لكنهم كانوا يمارسون صلاحيات تفوق صلاحيات رئيس الحكومة والوزراء وكبار المسؤولين في الحزب والدولة، وزيادة على ذلك كانوا فوق المحاسبة والقانون، وراحوا يعيثون فساداً في شتى الاتجاهات، ويبددون الأموال الطائلة بحجة حماية أمن حافظ الأسد ومساعدته على الامساك بزمام السلطة.

من هؤلاء الرجال، كان شقيقه رفعت الأسد وأخيه جميل الأسد، بالإضافة إلى عدد كبير من أبناء أخوته وأخواته وأنسبائه، وكل من يمتون له بصلة قرابة.. وبعضهم لم يكن يتولى أي منصب، لكنهم كانوا يمارسون السلطة ويتصرفون وكأنهم جزء من آلة الحكم في سوريا.

لقد ترك حافظ الأسد هؤلاء الرجال، يثرون على حساب اقتصاد الدولة، ويعيثون فساداً وسرقة للمال العام، لدرجة أن أموال المساعدات الخليجية، تم تبديدها بالكامل على يد رفعت الأسد، الذي استحوذ على قسم كبير منها منذ بداية السبعينيات وحتى مطلع الثمانينيات وراح يبني بها قوة عسكرية خاصة به، تحولت لتكون بعد العام 1983، قوةً في مواجهة حافظ الأسد ذاته..

وأما على صعيد بناء الاقتصاد الداخلي، فقد استعان حافظ الأسد بالشركات الرومانية، التي راحت تتواجد في كل القطاعات تقريباً، وتتولى هي مهمة انجاز المشاريع الاقتصادية ومشاريع البنية التحتية، وقد استنزفت هذه الشركات الأموال الطائلة من الاقتصاد المحلي دون أن يكون لعملها أثر واضح على حياة الناس المعاشية أو على تطور البنية الاقتصادية في البلد..

بداية أزمة الثمانينات الاقتصادية
 
عندما دخلت سوريا العام 1980، بالتزامن مع القرار الخطير الذي اتخذه حافظ الأسد في الوقوف إلى جانب إيران ضد العراق، أدى ذلك إلى توقف المساعدات المالية الخليجية، وبدأت على الفور ملامح الأزمة الاقتصادية تلوح في الأفق، فقام حافظ الأسد بتغيير حكومة محمد علي الحلبي، وتكليف الانتهازي عبد الرؤوف الكسم، وأحد رجالات رفعت الأسد، بتشكيل حكومة جديدة، تكون مهمتها التصدي للمستجدات والتحديات الاقتصادية الطارئة. وكان ذلك في 14 كانون الثاني من عام 1980.

وأول قرار اتخذته حكومة الكسم بعد أقل من ثلاثة أشهر على عملها، هو رفع أسعار كل شيء بنسبة تتراوح بين 100 بالمئة، إلى 400 بالمئة بالنسبة لمواد البناء.. مع زيادة رواتب بنسبة 25 بالمئة للموظفين في الدولة.

وسبب زيادة أسعار مواد البناء على هذا النحو الفاحش، كان لتغطية سرقات رفعت الأسد، في مشروع دمر السكني، الذي تم البدء به في العام 1977، وتم نهب أغلب مخصصاته من الاسمنت والحديد ومواد البناء، وتحويلها لبناء منشآت سرايا الدفاع وبيوت لأبناء الطائفة العلوية في مناطق حول دمشق وبالذات في المزة. إذ كان سعر طن الاسمنت 80 ليرة والحديد 350 ليرة للطن، وتم رفع أسعارهما إلى 400 ليرة للإسمنت وأكثر من 1800 ليرة للحديد ومن ثم إلى ضعف هذا الرقم بعد أشهر قليلة.

ولعبة أسعار مواد البناء في سوريا، هي من أخطر الألعاب القذرة التي مارسها نظام الأسد الأب وحاشيته، وابتزوا بها الشعب السوري، حتى وصل سعر طن الحديد في منتصف الثمانينات إلى أكثر من 30 ألف ليرة سورية، في الوقت الذي لم يكن يتجاوز فيه راتب الموظف الألف ليرة شهرياً. وكان يتاجر بمواد البناء ضباط الجيش والمخابرات علناً، وهو ما أدى إلى توقف حركة البناء الخاص بشكل شبه كامل، وأدى ذلك إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل جنوني.

أما القرار الآخر الذي اتخذته حكومة عبد الرؤوف الكسم، وكان له الأثر الكبير على تدهور الحياة المعاشية للناس، هو وقف عمليات الاستيراد للكثير من المواد الأساسية بحجة الحفاظ على القطع الأجنبي، مع رفع شعار تحقيق الاكتفاء الذاتي، وقد أدى هذا القرار على الفور، إلى تنشيط عمليات التهريب من الدول المجاورة، والتي قام بها أقارب الأسد على وجه الخصوص، وأدت كذلك إلى مزيد من ارتفاع الأسعار.

وحتى العام 1982، كان النظام قد أطبق الخناق على الشعب السوري، فتوقفت حركة العمل وزادت البطالة وزاد القمع، بينما كان حافظ الأسد يرفع من وتيرة الأزمات والتحديات في محاولة لإشغال هذا الشعب عن المطالبة بأبسط حقوقه، فتارة إسرائيل وتارة أنور السادات وتارة أخرى الأخوان المسلمين والعراق. وزاد من صعوبة الأوضاع المعاشية، إغلاق الدول الغنية لأبوابها في وجه المواطن السوري، الذي أصبح بنظر دول الخليج بعثياً ويسعى لزعزعة الأمن والاستقرار فيها.

فانطلقت العمالة السورية تبحث عن تأمين لقمة العيش فقط، إلى دول أحسن حالاً من سوريا بقليل، إلى لبنان رغم مخاطر الحرب الأهلية والأردن وليبيا.

ويمكن القول، إنه حتى منتصف الثمانينيات وأزمة حافظ الأسد مع شقيقه رفعت في العام 1984، جعلت الأول يتنبه ربما إلى أن عدوه لم يكن الشعب السوري كما كان يظن، بل كان عدوه أقرب الناس إليه.. لهذا اتخذ قراراً بتعديل على حكومة عبد الرؤوف الكسم، في نفس العام، واستدعى الدكتور محمد العمادي الذي كان قد غادر للكويت للعمل في صندوق التنمية العربي، وكلفه بوزارة الاقتصاد، وطلب منه أن يتولى مهمة مواجهة الحصار الاقتصادي المستجد، الذي فرضته الدول الأوروبية على سوريا، وزاد من صعوبة الأوضاع الاقتصادية.

لم يستطع العمادي أن يفعل الشيء الكثير، مقابل إصرار عبد الرؤوف الكسم على وقف كل أشكال الاستيراد، ما اضطر حافظ الأسد إلى تغييره في العام 1987، وتكليف محمود الزعبي برئاسة الحكومة، الذي اتخذ قرارات بالسماح باستيراد المواد الغذائية على وجه التحديد، حيث عانى الشعب السوري على مدى السنوات الثلاث السابقة، من تلاشي السلع الغذائية والأساسية من الأسواق بما فيها الخبز..
 
وتم كذلك السماح للقطاع الخاص بأن يساهم في العملية الإنتاجية وافتتاح المعامل والمنشآت الصناعية، بعد أن تمت محاربته منذ مجيء حافظ الأسد للسلطة، واتهامه بالعمالة للاستعمار والامبريالية.. وأخذت الأوضاع منذ العام 1988 تتحسن رويداً رويداً، لناحية توفر السلع الغذائية والخبز، بالإضافة إلى تنشط سوق العمل، واستقرار الأسعار.. إلى أن دخلنا في العام 1990، حيث شكل ذلك العام نقلة جديدة للأوضاع في سوريا، تمثلت في الغزو العراقي للكويت، وبداية الصلح بين حافظ الأسد ودول الخليج العربية، وما نتج عنه من انفتاح لهذه الدول على سوريا، وإعادة مدها بالمساعدات المالية.. وهو ما سنتوقف عنده في المقال القادم.

ترك تعليق

التعليق

  • 2018-05-28
    انهيار الليرة السورية كان سببه الخلاف بين حافظ و رفعت. والاموال التي اعطيت لرفعت وجماعته ليتركوا البلد هذا غير ما دفعه القذافي وقتها . وليس الحصار . كل الاموال التي تصادرها فرنسا واسبانيا هذه الايام هي اموال سوريا التي نهبت . واطاحت بقيمة الليرة وقتها.