الاقتصادي بشار الأسد.. كيف وصلنا إلى كل هذا السوء؟!


لا يختلف اثنان على أن الفترة الأولى من حكم بشار الأسد والممتدة من حكومة محمد مصطفى ميرو الثانية في آذار العام 2001 وحتى منتصف أيلول في العام 2003، شهدت انتعاشاً اقتصادياً مهماً على صعيد الحياة المعاشية للناس، فقد تحسن مستوى الدخل وانخفضت الأسعار، وزادت فرص العمل، وبدأ المواطن يشعر بأن زمن حافظ الأسد ولى بالفعل، وأن هناك نية صادقة من قبل النظام، بفتح صفحة جديدة مع الشعب السوري.

لكن سرعان ما بدأت الأوضاع الاقتصادية بالتغير في العام 2004، مع حكومة محمد ناجي العطري، الذي خرج بخطاب جديد لم يعتد السوريون على سماعه من قبل، وجال به على جميع المحافظات السورية، وهو أن الدولة لم تعد تتحمل أن تظل "أباً" للشعب، وأنه من الآن وصاعداً سوف تقوم بتحرير الأسعار ورفع الدعم تدريجياً عن الكثير من السلع الأساسية.

أما الشعب، الذي كان يتبلغ قرار يتمه من فم أبيه، فقد استغرب لهذه العلاقة الأبوية التي نشأت وماتت في نفس اللحظة..!

وبكل الأحوال، الكثير من المراقبين للوضع الاقتصادي في سوريا، والسبب في اتخاذ تغييرات جوهرية في السياسة الاقتصادية في العام 2004، لا يستطيعون إغفال العامل السياسي الذي عصف بالمنطقة في تلك الفترة، والمتمثل بالاحتلال الأمريكي للعراق في آذار من العام 2003، حيث أدى ذلك مباشرة لانقطاع سيل من التمويل الذي كان يتدفق على رجالات الأعمال السوريين والحكومة، من خلال برنامج النفط العراقي مقابل الغذاء، كما أن سيطرة القوات الأمريكية على حقول النفط في كركوك، أدت لانخفاض إنتاج النفط السوري في المنطقة المقابلة لها في حقول الرميلان، بأكثر من 200 ألف برميل يومياً..
 
كل ذلك، أدى بحسب هؤلاء المراقبين إلى ضرورة أن يتخذ النظام إجراءات سريعة، استعداداً لما هو أسوأ، وكان الأسوأ الذي يتوقعه، هو أن تكمل القوات الأمريكية طريقها إلى دمشق.

لكن السؤال الذي نبحث عن إجابة له في هذا المقال، هو: كيف تحولت هذه السياسة الاقتصادية الجديدة فيما بعد، إلى أداة استخدمها النظام لقمع الشعب السوري بدلاً من القمع المخابراتي، والتي نعتقد أنها كانت من الأسباب الرئيسية لقيام الثورة السورية في العام 2011..

بشار الأسد والإصلاح

أول ما برز اسم بشار الأسد، كان في العام 1997، أي قبل موت والده بثلاث سنوات. عندما أخذت أجهزة المخابرات تطرح اسمه في الشارع السوري، على أنه شاب عصري، ويرغب بنقل سوريا إلى عصر المعلوماتية والانترنت والاتصالات، ولم يكن في ذلك الوقت مطروحاً الحديث بشكل فج ومباشر عن أي طموحات سياسية لهذا الشاب، مثلما كان الأمر مع شقيقه باسل الأسد الذي لقي حتفه في العام 1994، والذي كان الشعب السوري يشعر صراحة أنه يجري تأهيله ليخلف والده.

ثم مع مطلع العام 1999، بدأ يعلو الحديث عن أن بشار بن حافظ الأسد، لديه مشروع إصلاحي لمكافحة الفساد والهدر في أجهزة الدولة، وتم تتويج هذه المرحلة، بالكشف فجأة عن صفقة فساد طائرات الإيرباص العشرة، التي تم على إثرها عزل رئيس الوزراء محمود الزعبي، وسجن وزير النقل مفيد عبد الكريم عشر سنوات، بالإضافة إلى تشكيل حكومة في شهر آذار من عام 2000 برئاسة مصطفى ميرو، تم فيها استحداث مناصب جديدة، مثل وزارة الدولة للتنمية الإدارية، التي تسلمها حسان النوري، المرشح للرئاسة أمام بشار في انتخابات العام 2014، وعهد إليها النظام بوضع دراسة لإعادة هيكلة أجهزة الدولة الإدارية، ضمن مشروع لم يتم الأخذ به، وتكلف أكثر من عشرين مليون يورو. وكذلك تم استحداث وزارة التخطيط التي تسلمها الدكتور عصام الزعيم.. كم جرت انتخابات جديدة لمجلس الشعب، نجح فيها مستقلون محسوبون على التيار البرجوازي، وكانت المرة الأولى التي يسمح بها لهذه الفئة بأن تخوض التجربة البرلمانية وفقاً لهويتها الاقتصادية الواضحة.
 
وبالفعل شهدت السنوات الأولى من حكم بشار الأسد الذي خلف والده بعد موته في منتصف العام 2000، حراكاً سياسياً ومدنياً على صعيد النخبة فقط، بينما كانت تتسلل أصداؤه في بعض الأحيان إلى وسائل الإعلام، لكن على نطاق محدود.

ولا بد أن نشير في هذا المجال إلى أن بشار الأسد أعلن ولأول مرة، إدراج أموال تصدير النفط السوري في الموازنة العامة للدولة، على عكس والده الذي كان يضع هذه الأموال تحت تصرف القصر الجمهوري، ولا أحد يعلم أين كان يتم صرفها، أو بالأحرى لم يكن أحد يجرؤ على طرح هذا السؤال، على الرغم من أنه في تلك الفترة وصل إنتاج سوريا من النفط إلى ما يقارب الـ 700 ألف برميل يومياً.
 
لقد انصب اهتمام بشار الأسد من الأعوام 2001 وحتى العام 2003، على تحسين الوضع المعاشي بالدرجة الأولى، فقام برفع رواتب الموظفين في الدولة بعد نحو عشر سنوات من ثباتها، كما بدأت الناس تشعر ببعض الأمل في البحبوحة الاقتصادية، مترافقة مع عدة أفكار أطلقتها الحكومة في ذلك الوقت، ومنها على سبيل المثال، إنشاء مكتب لتسجيل العاطلين عن العمل، والبحث لهؤلاء عن فرص للعمل الخاص أو في الحكومة، بعيداً عن الوساطات والتدخلات والتقاليد التي كانت سائدة في المجتمع السوري، إبان حكم حافظ الأسد.

كما قام بشار الأسد بإطلاق مشروع السكن الشبابي، وتشجيع الجمعيات السكنية على الاستثمار والمساهمة في حل مشكلة الإسكان في البلد، وفق خطة طموحة لم يستفد منها الشعب السوري إطلاقاً، لأن كل ذلك توقف بعد العام 2003، أي بعد الغزو الأمريكي للعراق، وعادت سوريا إلى سابق عهدها، إلى الإعلاء من شأن الخطاب الحربي والتعبوي، على حساب الخطاب الاقتصادي والاجتماعي.

التحولات الاقتصادية الكبرى

كما ذكرنا، دشنت حكومة محمد ناجي عطري التي تم تشكيلها في أيلول من العام 2003، مرحلة جديدة من حكم بشار الأسد، كان عنوانها العريض بأن الدولة لم تعد قادرة لوحدها على القيام بأعباء الشعب، وأنه لا بد من فتح الطريق للقطاع الخاص من أجل يساهم في عملية التنمية الاقتصادية..

وقد استقبل الشعب السوري هذا الخطاب الغامض بنوع من الاستغراب، لأنه لم يتم إيضاح الإجراءات التي تنوي الحكومة اتخاذها، وهي تتحدث عن مصطلح ملتبس اسمه اقتصاد السوق الاجتماعي، ثم أنه من جهة ثانية كانت الناس تشعر بالقرف من كل ما يمت للدولة بصلة، لذلك نظر الكثيرون بعين التفاؤل لإفساح المجال للقطاع الخاص بأن يعمل ويستثمر في كل المجالات، ولم يكن يخطر ببال أحد، أن ذلك سوف يكون الأداة البديلة لنهب خيرات سوريا وإفقار الشعب السوري.
 
لذلك، أول ما يلفت الانتباه في حكومة عطري، هو في تشكيلتها، التي جاءت بشخصيات أصبحت فيما بعد نجوماً في السياسة الاقتصادية الجديدة.

حيث تم استبعاد الدكتور عصام الزعيم من التشكيلة، والذي تولى في حكومة ميرو الثانية منصب وزير الصناعة.

كما تم تعيين محمد الحسين وزيراً للمالية، والذي كان يتولى منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية في حكومة ميرو الثانية كذلك، أما وزير التجارة، الدكتور غسان الرفاعي أحد الخبراء المرموقين في البنك الدولي، فسرعان ما ترك منصبه في العام 2004، بعد أن كان الكثيرون يعولون عليه، كأحد العناصر الإصلاحية في الحكومة بعد الاستغناء عن عصام الزعيم.

أما الشخصية الأبرز من كل هؤلاء، فكان عبد الله الدردري، الذي تولى منصب رئيس هيئة تخطيط الدولة في حكومة ميرو خلفاً للزعيم، ثم في نهاية العام 2004، تم تعيينه نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، وكان هذا المنصب شاغراً في حكومة عطري.

مع هذه التشكيلة الحكومية التي استمرت حتى العام 2011، حدثت التغيرات الكبيرة في الاقتصاد السوري، حيث انتقل بسرعة البرق، إلى اقتصاد يقوده ويتحكم به مجموعة من رجال الأعمال السوريين، الذين تم جلب الكثير منهم من خارج سوريا، وتم إعطائهم امتيازات تجارية واستثمارية، استطاعوا من خلالها أن يتحكموا بقوت الشعب السوري، ليتضح لاحقاً أن هؤلاء كانوا مجرد حلفاء للنظام، يتقاسمون معه الأرباح، وفق مبدأ تبادل المصالح والمنفعة.

أبرز التحولات الاقتصادية في عهد بشار الأسد

يمكن القول أن التحولات الكبيرة في الاقتصاد السوري، تم إقرارها بعد العام 2006، عندما تم السماح للبنوك الخاصة بالعمل على الأراضي السورية والتي بلغ عددها 14 بنكاً، تقليدياً وإسلامياً، كما تم السماح ببناء الجامعات الخاصة التي وصل عددها إلى أكثر من 20 جامعة في نحو ثلاث سنوات، ثم في تطوير مرسوم الاستثمار في العام 2008، والذي أعطى تسهيلات كبيرة للقطاع الخاص، وفتح باب الاستيراد على مصراعيه، وأخيراً في تشكيل مجالس رجال الأعمال، التي اتضحت من خلالها صورة التحالفات التي كانت تهدف لنهب خيرات البلد وتقاسمها مع هؤلاء الرجال ضمن تحالف كان يقوده رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد.

لقد أدى هذا الواقع الجديد، إلى تحولات أعمق على صعيد المجتمع وعلى صعيد الاقتصاد الكلي للدولة، حيث انهارت الزراعة والثروة الحيوانية والصناعة والتعليم، وتم فتح القروض على مصراعيها، الأمر الذي حول الشعب السوري إلى مدين للبنوك، ومرتهنة عقاراته لها، كما وتراجعت مشاريع الحكومة الاستثمارية والخدمية بشكل رهيب، ومعها معدلات النمو، وزادت البطالة والضرائب، واشتد الغلاء، بسبب أنه أصبح لكل سلعة مستوردها وتاجرها الذي يتحكم بها وفق هواه.
 
أما الفساد والمحسوبيات، فقد أصبح أسوأ مما كان عليه أيام حافظ الأسد في الثمانينات والتسعينيات، وبات هو الإطار العام الذي يحكم جميع العلاقات، بما فيها الاجتماعية.

وفي العموم من الصعب الإحاطة بتلك المرحلة عبر هذه السطور، وهو ما نأمل أن نستوفيه عند الحديث عن أبرز الشخصيات الاقتصادية التي قادت تلك المرحلة، وكذلك أبرز الأدوار التي قامت بها حتى وصلنا اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً إلى كل هذا السوء..؟

ترك تعليق

التعليق