وزير النقل، مفيد عبد الكريم.. آخر "حرامي" من زمن حافظ الأسد


حتى اليوم لا أحد يعرف التفاصيل الحقيقية، لقصة طائرات الإيرباص الـستة التي أطاحت بثلاثة مسؤولين كبار في العام 2000، هم وزير النقل مفيد عبد الكريم، ونائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، سليم ياسين، ورئيس الوزراء محمود الزعبي الذي قضى انتحاراً في الشهر الخامس من نفس العام، على خلفية نفس القضية.

لقد جاء في ملف الاتهام، أن المسؤولين الثلاثة السابقين تقاضوا رشى بعشرات ملايين الليرات، لكن لم يقدم النظام للصحافة في ذلك الوقت، أي حيثيات للقضية، وظلت الأمور مبهمة، إلى أن كشف، قبل عدة سنوات، الكثير ممن كانوا على إطلاع على الموضوع، أن المسؤولين الثلاثة الذين جرى البطش بهم، ليس لهم علاقة بالصفقة، لا من قريب ولا من بعيد، وكل ما في الأمر، أن النظام قرر في العام 1996 شراء ست طائرات إيرباص من فرنسا، بقيمة 250 مليون دولار، وكلف في البداية وزارة النقل ورئاسة مجلس الوزراء، بإعداد الشروط الأولية، إلا أنه بعد عدة أشهر تم إبلاغهم، بأن الصفقة سيتولى الإشراف عليها القصر الجمهوري، وبالتحديد محمد مخلوف، شقيق زوجة حافظ الأسد.

ثم بعد ثلاث سنوات، أي في العام 1999، بدأت الطائرات تأتي تباعاً، لكن لم تمض سوى أشهر قليلة، حتى بدأت الإشاعات تتحدث عن وجود فساد في صفقة الطائرات.. وأن هناك رؤوساً أينعت وقد حان قطافها، ولم تكن هذه الرؤوس سوى هؤلاء المسؤولين الثلاثة الكبار.

رواية المخابرات

هناك رواية للمخابرات، كان يتداولها الناس على الشكل التالي: يقال إن وزير النقل مفيد عبد الكريم "1992 - 2000" جاء إلى رئيس وزرائه محمود الزعبي طالباً منه اللقاء على انفراد وفي مكان بعيد.. يومها أبلغه أنه استطاع أن يحصل على عرض مجزٍ، وهو صفقة طائرات مستعملة "أخت الجديدة" لكن بسعر أقل من 200 مليون دولار للطائرات الست.. وبالتالي الفارق بين السعرين، البالغ نحو 50 مليون دولار، يتقاسمه مفيد عبد الكريم ومحمود الزعبي "فيفتي فيفتي".

ويُروى أن الزعبي فكر كثيراً بعد أن استمع للوزير مفيد عبد الكريم.. وتذكر تلك اللحظات التي أرسله فيها حافظ الأسد إلى النمسا من أجل جلب أموال باسل الأسد الذي لقي حتفه على طريق المطار في العام 1994، وكانت بحدود 13 مليار دولار.. ثم امتدت يده إلى علبة سجائره، أخرج منها سيجارة، أشعلها وراح يسحب منها بنهم، بينما راح ينظر إلى عيني وزير نقله مباشرة.. ففهم هذا الأخير ماذا يقصد، فقال له على الفور: "أنا ابن الطائفة العلوية، ومصدر ثقة للسيد الرئيس، وصدقني أن أحداً لن يفكر بالنبش وراءنا".. هنا مد محمود الزعبي يده مصافحاً مفيد عبد الكريم، معلناً موافقته على الانخراط بالصفقة.. وعلى مبدأ "الجدي الذي لعب بعقل تيس".

الرواية الحقيقية

في الواقع، إن الرواية الحقيقية لقصة طائرات الإيرباص، أنه جرى التضحية بكل هؤلاء المسؤولين، من أجل تأهيل بشار الأسد لمنصب رئيس الجمهورية، على أنه يحارب الفساد على أعلى المستويات، ودون تمييز بين علويّ وسنيّ، إذ سرعان ما توفي حافظ الأسد في منتصف العام 2000، وعندما آلت الأمور إلى بشار بهذه السهولة، تم الإفراج عن سليم ياسين، بعد ثلاثة أشهر فقط، على الرغم من أنه تلقى حكماً بالسجن عشر سنوات وغرامة مالية كبيرة.

وفي منتصف العام 2002، نشرت الصحافة الرسمية، خبراً عن الحكم على مفيد عبد الكريم بالسجن عشر سنوات، ودفع غرامة قدرها، عشرة ملايين دولار.

وقالت صحيفة "البعث" في ذلك الخبر، إن محكمة الأمن الاقتصادي أصدرت حكمها على عبد الكريم "لتعيينه عاملين في مكاتب مؤسسة الطيران العربية السورية بالخارج غير كفوئين وبتهمة قبض رشاوى منهم لقاء هذا التعيين". أي أن الأمر لا علاقة له بطائرات الإيرباص.

وخرج عبد الكريم من السجن في العام 2006، بعد تخفيض الحكم عليه إلى عشرة أشهر فقط، مع تخفيض الغرامة إلى 4 ملايين ليرة.. ثم توفي في العام 2012، في بيته بقرية "الشيخ يونس" بالقرب من صافيتا، بعد أن توارى عن الأنظار تماماً طوال سنوات ما بعد خروجه من السجن.

مفيد عبد الكريم

لا يوجد الكثير من المعلومات عن حياة مفيد عبد الكريم قبل العام 1992، أي قبل توليه منصب وزير النقل، سوى أنه كان مدرساً جامعياً في كلية الحقوق والاقتصاد.. لكن بحسب ما كان يروى، أنه كان يتقاضى من الطلاب مبالغ مالية مقابل نجاحهم في المواد التي يدرّسها، وعلى عينك يا تاجر.

وفي العام 1992، وبعد حرب الخليج الثانية، وعودة المساعدات المالية الخليجية للتدفق على حافظ الأسد، بسبب موقفه المناصر للكويت والسعودية في تلك الحرب، أُجري تغيير وزاري، برئاسة محمود الزعبي، للمرة الثانية، وتم اختيار مفيد عبد الكريم وزيراً للنقل..
وقصة وزارة النقل تحديداً، أن حافظ الأسد، بدءاً من حكومة عبد الرؤوف الكسم الثانية في العام 1984، أخذ  يوليها لشخص من الطائفة العلوية، وهو تقليد استمر به بشار الأسد، مع استثناء وحيد في العام 2000، عندما تولاها مكرم عبيد، المسيحي، وحتى العام 2004، بعد الإطاحة بمفيد عبد الكريم..

والسبب أن وزارة النقل تشرف على قطاع اقتصادي كبير، يبدأ من الموانئ البحرية ولا ينتهي بالمطارات، بل ويمتد إلى الطرق والشوارع والجسور والطائرات والقطارات والسيارات والباصات والجرارات والتركسات والبلدوزرات.

وهذه الوزارة كانت على الدوام مجالاً خصباً للنهب والسرقة، بفضل تعهداتها الكبيرة والكثيرة، والتي كانت تذهب دائماً إلى أشخاص محددين، يدورون في فلك ذو الهمة شاليش ومحمد مخلوف.

لذلك كان نظام الأسد، ولازال، لا يثق بشخص من خارج الطائفة العلوية، أن يتولى هذه الوزارة.. كما ويشترط بشخص الوزير أن يكون مرناً ومارقاً، وطائفياً، وفاسداً.. وكان ذلك شكلاً من أشكال "العلونة الاقتصادية" التي اعتمدها نظام الأسد. كما كانت نموذجاً من نماذج استخدام الطائفية كأداة من أدوات إحكام السيطرة على مقدرات البلاد، من جانب نظام الأسد.

لذلك يقال، إنه عندما عرض على حافظ الأسد أسماء المرشحين لوزارة النقل، مرفقة بدراسات أمنية، وقع اختياره مباشرة على مفيد عبد الكريم، بعد أن اطلع على ملفه الوسخ في الجامعة.. بالإضافة إلى أن حافظ الأسد، فكر مباشرة، بأن نزع مفيد عبد الكريم من الجامعة، سوف يكون له وقع جميل عند الطلاب، الذين سيتخلصون من مدرس مرتشٍ.. وهو ما كان بالفعل..

وبحسب معاصرين من تلك الفترة، ومن العاملين في وزارة النقل، فقد جرت "علونة" الوزارة خلال أقل من ثلاث سنوات، حيث قام مفيد عبد الكريم بتوظيف المئات من أبناء الطائفة العلوية، في شتى المؤسسات التابعة للوزارة، ويبلغ عددها أكثر من 20 مؤسسة ومديرية- "المؤسسة العامة للطرق والجسور ـ المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي ـ المؤسسة العامة للموانئ البحرية  ـ المؤسسة العامة للطيران المدني ومكاتبها حول العالم ـ مديريات المطارات الأربع في سوريا ـ بالإضافة إلى مديريات النقل في المحافظات"- كما وتشكل موازنة وزارة النقل لوحدها، أكثر من 20 بالمئة من الموازنة العامة للدولة.

وكانت التهمة التي وجهها النظام لمفيد عبد الكريم وسجنه لأجلها خمس سنوات، هي تقاضي رشى مقابل الوظائف، لكن أحد المواقع الموالية للنظام، كتب عنه، بعيد وفاته في العام 2012، أنه كان يوظف الفقراء من أبناء المنطقة الساحلية، ولم يكن يتقاضى شيئاً، وإنما غيره كانوا يتقاضون باسمه، دون أن يدري..

خاتمة

يبقى مفيد عبد الكريم، أحد الاقتصاديين الذين اعتمد عليهم النظام في إدارة مرحلة من تاريخ سوريا المعاصر، الفاسد، لكنها مرحلة، ألقت بثقلها على هذا القطاع الاقتصادي المهم، حتى يومنا هذا، حيث أنه لازال يعاني من الفساد والترهل..

ولعل الصورة أصبحت أوضح في وقتنا الحالي، فيما يخص أهمية قطاع النقل بالنسبة للنظام، عندما قام مؤخراً بتقديم أهم مؤسساته، إلى الروس والإيرانيين، الذين سيطروا على الموانئ والمطارات، ولم يتبق سوى الشوارع.. أما الجسور، فقد قام النظام بتهديم أغلبها في حملته الأخيرة على الشعب السوري المستمرة منذ العام 2011.. ومثلها سكك الحديد والقطارات..

ترك تعليق

التعليق