محمد الحسين.. رجل مخابرات ارتدى بدلة وزير مالية؟، أو أحد ضحايا النظام؟


في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، اقتيد بشار الأسد لكي يستمع لمحاضرة، كان يلقيها مدرس من دير الزور في كلية الاقتصاد بجامعة حلب، وطلبوا منه أن يصغي إليه بإمعان، في محاولة للاستفادة منه في أحد المناصب في الحزب أو الدولة..

أعجب بشار الأسد يومها كثيراً بكلامه ومنطقه، لكنه أخبرهم أنه بحاجة لأن يستمع إليه مرة ثانية، من أجل أن يكوّن فكرة شاملة عنه، ويتخذ قراراً حاسماً بشأن المنصب الذي يمكن أن يتولاه.

لم يكن هذا المدرس سوى الدكتور محمد الحسين، الذي لم يكن يستعجل المناصب، لأنه كان يعلم أنها قادمة لا محالة، سيما وأنه عديل أحد أبرز رجالات المخابرات في سوريا في ذلك الوقت، والأكثر قرباً من القصر الرئاسي، ألا وهو العميد محمد سليمان الذي اغتيل في العام 2010 ، في بيته على شاطئ اللاذقية، في ظروف لم يتم الكشف عن الكثير من تفاصيلها إلى يومنا هذا.

 لكن المهم أن محمد الحسين كان له ما أراد بعد تولى بشار الأسد الحكم خلفاً لوالده في العام 2000، إذ سرعان ما تدرج في المناصب، ليصبح أشهر وزير مالية في عهد الأسد الابن، وبصلاحيات، كان يرى فيها البعض بأنها تفوق صلاحيات أي مسؤول آخر في الحكومة..

فمن هو محمد الحسين..؟

المخبر المسؤول

الكثيرون كانوا يتوجسون من محمد الحسين، بسبب هذه الصلة القدرية التي ربطته برجل المخابرات محمد سليمان.. بالإضافة إلى ذلك، أن الحسين ذاته أمضى خدمته العسكرية في أجهزة المخابرات، وتربى على قيمها اللاأخلاقية، واستفاد من جميع مزاياه السلطوية التي أوصلته إلى أرفع المناصب في الحزب والحكومة..

ويشكك الكثير من المراقبين كذلك، بالدرجة العلمية التي حصل عليها من أحد جامعات أوروبا الشرقية سابقاً، فهي بحسب وصفهم لا تؤهله لأن يتولى منصب وزير المالية، أو أن يكون من أبرز وجوه الفريق الاقتصادي في الحكومة الذي قاد التحول في سوريا، من النمط الإشتراكي، إلى ما يسمى اقتصاد السوق الاجتماعي. بل كانوا يرون فيه في أحسن الأحوال، أستاذاً مساعداً في كلية الاقتصاد، والبعض من الأكاديميين، كان يستكثر عليه، أن يكون مدرساً لمادة القومية في أحد ثانويات ريف دمشق..!

لكن ما حقيقة هذه الاتهامات والأقاويل..؟ وهل بالفعل أن الدكتور محمد الحسين، كان أصغر بكثير من المناصب التي تولاها..؟ وأنه كان أحد المسؤولين الذين ساهموا في إحكام قبضة بشار الأسد وعصابته، على مقدرات البلد، ومن ثم نهب خيراته..؟ أم أنه كان إنساناً شريفاً وفهيماً وحاول جهده أن يحمي الاقتصاد السوري من النهب، بحسب رأي آخرين..؟

هذا ما سنحاول البحث عنه في هذا المقال..

التحولات الاقتصادية في زمن محمد الحسين

أولى المناصب التي تولاها الحسين في فترة مبكرة من حكم بشار الأسد، كانت رئاسته للمكتب الاقتصادي في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي. ومن ثم تم تعيينه في حكومة محمد مصطفى ميرو، نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية. وفي العام 2003 تم تعيينه في منصب وزير المالية، في حكومة محمد ناجي عطري، وهو المنصب الذي استمر فيه حتى قيام الثورة السورية في العام 2011، حيث خرج من الوزارة مع التغيير الحكومي الذي جاء بحكومة عادل سفر.

وعلى مدى سبع سنوات، كان محمد الحسين جزءاً من التحولات الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها سوريا، إلى جانب باقي الفريق الاقتصادي الحكومي، الذي ضم وجوهاً إشكالية وبارزة، يأتي على رأسها، عبد الله الدردري، نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية.

ولا يتوانى الكثير من الاقتصاديين، عن توجيه أصابع الاتهام لهذين الرجلين، على أنهما لعبا دوراً كبيراً في تمرير مخططات بشار الأسد الاستيلائية على الاقتصاد السوري، وبأنهما كانا من أبرز عرابي القرارات التي صبت جميعها في مصلحة رامي مخلوف، وغيرهم من أفراد العصابة الحاكمة، وما نتج عنها من أوضاع اقتصادية صعبة، أوصلت البلد إلى حافة الفقر والهاوية، والتي كانت من أبرز الأسباب التي أدت إلى قيام الثورة السورية..

لكن يبقى السؤال: ما حقيقة هذا الأمر..؟، وهل في دولة الأسد الأمنية، من يستطيع أن يتخذ قرارات وينفذ سياسات، دون أن تكون بتوجيه من بشار الأسد ذاته، ومن أجهزة المخابرات..؟

يجمع الكثير ممن احتكوا بوزير المالية محمد الحسين، عن قرب، بأنه كان رجلاً شريفاً ونظيف اليد، ومخلصاً في عمله، وديناميكياً، بالإضافة إلى ذلك، دمثاً ولطيفاً، وقد حاول جهده خلال وجوده في منصب وزير المالية أن يحمي المال العام ومخزون البلد النقدي من العملات الصعبة، من الهدر والنهب، سيما وأنه في عهده، آلت تبعية جميع المصارف الحكومية، من وزارة الاقتصاد إلى وزارة المالية، ثم بعد خروجه من الوزارة، عادت تبعية المصارف إلى وزارة الاقتصاد مرة أخرى.

وقد حاول الحسين كذلك، إصلاح النظام الضريبي، ورفع مساهمته في الناتج من المحلي الإجمالي إلى نحو 14 بالمئة، إلا أن ما حدث، أن التهرب الضريبي ظل مرتفعاً، وخصوصاً بين طبقة المكلفين الكبار، من رجال الأعمال والتجار، وبالتالي من دفع ثمن هذه الزيادة في الضرائب، كان الطبقات الفقيرة والمتوسطة، وبالذات طبقة الموظفين.

أما على مستوى الجمارك، فقد ظل الفساد هو سيد الموقف، وكان كلما وُجِه الحسين بسؤال عن سبب تدني إيرادات الجمارك إلى ما دون المليار دولار، بالمقارنة مع لبنان، الذي كانت إيرادات جماركه أكثر من هذا الرقم بكثير، كان الحسين يلف ويدور، ويتصبب عرقاً، ويحك رأسه ورقبته، ويطقطق بأصابعه، وكأنه يقول لهم: أرجوكم.. ارحموني من هذا السؤال..!

وعلى المستوى الشخصي، التقيت بمحمد الحسين عدة مرات، خلال وجوده في منصب وزير المالية، منها ما كان على انفراد، وبعيداً عن أعين وأجهزة تنصت المخابرات.. كنت أشعر من حديثه، في الكثير من الأحيان، بالاختناق، عندما أحاصره بأسئلة الشارع في ذلك الوقت، عن سبب ازدياد حالات الفساد والغش والمحسوبية بالإضافة إلى تآكل القدرة الشرائية، وتدني مستوى الدخل، ونشوء طبقة المستغلين الكبار من التجار ورجال الأعمال..

كان يقول لي، إنه يعول على نشاط الإنسان السوري وقدرته على البناء في أصعب الظروف، ثم يضرب لي مثلاً عن والدته في دير الزور التي تستثمر بضعة دونمات في زراعة البامية، وتجني منها أموالاً لا بأس بها.

وحدثني مرة عن ابنه عامر، الذي يدرس في بريطانيا على نفقته الخاصة، دون أن يسعى للحصول على منحة له من الحكومة، وهو القادر في ذلك الوقت.. ثم في مرة ثانية، قال لي، أن ابنه يعمل في أحد المطاعم من أجل أن يغطي نفقات دراسته.. كان يقول هذا الكلام وعلامات السرور تعلو وجهه..

وفي العام 2010، آخر مرة رأيته فيها على انفراد، سألته عن حقيقة الاحتياطي النقدي الأجنبي، الذي تم الإعلان عنه والبالغ 16 مليار دولار.. فقال لي، إن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك، وأنه تم إخفاء 5 مليارات دولار، لم يتم الإعلان عنها، وتم وضعها في بند الاحتياطي النقدي، في حال حدوث كوارث أو حرب مفاجئة..

"أبو عامر" بعد الثورة السورية

ظل محمد الحسين بعد إخراجه من وزارة المالية في العام 2011، يشغل منصب رئيس المكتب الاقتصادي حتى يومنا هذا.. والكثيرون يقولون بأنه تم عزله من هذا المنصب، ولكن دون الإعلان عن ذلك في وسائل الإعلام.

ومع أن الكثيرين توقعوا أن يكون محمد الحسين، أحد المنضوين تحت لواء الثورة السورية، عند انطلاقتها، بسبب ما لمسوه منه من نزاهة خلال وجوده في منصبه، إلا أنه لم يخرج عنه أي تصريح، فيما يخص الأزمة السورية برمتها، منذ بدايتها وحتى اليوم..

واعتبر البعض أن هذا الصمت من هذا المسؤول الكبير، إنما بحد ذاته موقف يحسب له، كونه لم يشبّح مع النظام، مثلما فعل غيره من المسؤولين الآخرين.. أو أنه لم يسعى لأن يستمر بالظهور والتصريح.. بل آثر الاختفاء بشكل كامل.

وفي العام 2012، بدأت صفحات الموالين للنظام تتداول كتابات ابنه عامر في بريطانيا، الذي أعلن ولائه للثورة، وأخذت تشن الهجوم على الوزير ذاته، وتتهمه بالإنقلاب على النظام، الذي "لحم أكتافه من خيره".. إلا أن الحملة لم تستمر طويلاً، وتوقفت مع توقف عامر عن التصريح بمواقفه.

فيما بعد انتشرت أقاويل بأن محمد الحسين ممنوع من السفر إلى خارج البلد، وقد جرب أحد المرات، وتم إرجاعه من مطار دمشق الدولي.. إلا أنه حالياً يدرّس في أحد جامعات الإمارات العربية المتحدة، لكن ممنوع عليه اصطحاب أسرته معه.. وهي معلومات أكدتها الكثير من المصادر المقربة والمطلعة.

ترك تعليق

التعليق