"جمعة دامية" لليرة التركية.. فماذا حدث؟


بدأ الأمر، يوم الجمعة، بارتدادات متوقعة لتراجع سعر صرف الليرة التركية، في الأيام القليلة الماضية، قبل أن يتحول إلى حالة وصّفها المراقبون بـ "الانهيار"، وارتدت على أسواق عالمية، وأثارت حالة ملحوظة من الارتباك في أداء المسؤولين الأتراك.

ببساطة، سجلت الليرة التركية، يوم الجمعة، أكبر خسارة يومية لها، منذ أن حررت تركيا سعر الصرف في 2001.

وبدأ مسار التراجع في سعر صرف الليرة التركية، مع الحديث عن مخاوف مستثمرين من إحكام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبضته، على السياسة الاقتصادية في بلاده. وذلك قبل أن تدخل أسوأ أزمة دبلوماسية، بين أنقرة وواشنطن، على الخط.

وفيما يعتبر أردوغان ما يحدث مؤامرة على تركيا، ويطالب شعبه بمواجهتها، يعتقد الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أن سياسة الرسوم الجمركية التي هزت الاقتصاد التركي، سريعاً، هي الكفيلة في حل المشاكل العالقة بين الطرفين، وتحقيق مكاسب له على الصعيد الداخلي.

بكم أصبحت الليرة؟

وتسارع تدهور الليرة التركية، خلال ساعات يوم الجمعة. ففي حين كانت عند الافتتاح، بحوالي 5.90 ليرة للدولار الواحد، وصلت بعيد إعلان ترامب فرض رسوم جمركية على سلع تركية، إلى 6.87 ليرة للدولار. فيما قال صرّافون إن الليرة التركية وصلت إلى حاجز 7 ليرات للدولار. وذلك قبل أن تقلص من خسائرها في وقت لاحق، ويتم تداولها عند 6.4 ليرة للدولار.

وخسرت الليرة التركية ما يتراوح بين 16 إلى 22%، من قيمتها، خلال أقل من 24 ساعة. وبذلك تقترب الليرة التركية من خسارة 50% من قيمتها، منذ بداية العام الجاري.

قضية القس الأمريكي

ورغم أن تراجع سعر صرف الليرة التركية، شكّل مساراً مستمراً، منذ ما قبل الانتخابات الرئاسية في حزيران الماضي، إلا أنه تسارع بشكل نوعي، خلال الأسبوع الأخير، على خلفية أكبر أزمة دبلوماسية بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.

فالرئيس الأمريكي قرر انتهاج استراتيجيته المفضّلة، وهي العقوبات والرسوم الجمركية، كي يحصل على تنازلات في قضية القس الأمريكي، آندرو برونسون، الذي يتعرض للمحاكمة في تركيا، بتهم تتعلق بـ "الإرهاب".

وبدأت الأزمة بفرض عقوبات أمريكية على وزيرين تركيين، وصفها مراقبون بأنها غير ذات قيمة، وأنها مجرد رسالة ضغط. لكن الأمر تسارع بصورة دراماتيكية، بعد فشل المفاوضات في اجتماع بين مسؤولين كبار في الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، يوم الأربعاء. وهي اللحظة التي تسارع معها مسار التدهور في سعر صرف الليرة التركية.

ترامب يستخدم ورقة الرسوم الجمركية

ويوم الجمعة، دخل مسار تدهور الليرة التركية، منعطفاً نوعياً، بعد أن أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، مضاعفة التعريفات الجمركية على الصلب والألمنيوم التركيين.

وكتب ترامب على توتير "لقد سمحت للتو بمضاعفة التعرفات الجمركية على الصلب والألمنيوم من تركيا في وقت تنزلق عملتهم، الليرة التركية، متراجعة بسرعة مقابل دولارنا القوي جداً. علاقاتنا مع تركيا ليست جيدة في هذا الوقت".

كانت الولايات المتحدة قد فرضت قبل خمسة أشهر، تعريفات جمركية إضافية بنسبة 25 و10 في المئة على واردات الصلب والألمنيوم، ما يعني أن هذه المنتجات ستخضع للضريبة الآن بنسبة 50 و20 في المئة على التوالي.

وأوضحت متحدثة باسم البيت الأبيض ما قاله ترامب معلنة، "الرئيس أجاز تحضير الوثائق لفرض رسوم"، ما يعني أن فرض هذه الرسوم الجديدة قد يستغرق بعض الوقت.

وتشكل الواردات الأمريكية من الصلب التركي 4% من الصلب الذي تشتريه الولايات المتحدة من الخارج، وفق إحصاءات تعود إلى العام 2017، حسب تقرير لـ "فرانس برس".

ارتدادات عالمية

وللمرة الأولى، منذ بدء مسار تراجع سعر صرف الليرة التركية، ظهرت ارتدادات على الاقتصاد العالمي، جراء ذلك. إذ تراجعت الأسهم الأوروبية، يوم الجمعة، وسط هزة عنيفة في السوق أثارها هبوط الليرة التركية، مع تضرر بنوك كبرى في أوروبا من مخاوف تتعلق بانكشافها على تركيا.

وقال محللون إن الأسهم الأوروبية تضررت أيضاً من العقوبات الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا والتي أثارت قلقاً بشأن تأثيرها على الاقتصاد الألماني، حسب تقرير لـ "رويترز".

وجاءت البنوك بين أكبر القطاعات الخاسرة في جلسة الجمعة بعد أن قالت صحيفة فايننشال تايمز إن البنك المركزي الأوروبي قلق من انكشاف بعض من أكبر البنوك في منطقة اليورو على تركيا في ضوء هبوط عملتها.

وهبطت أسهم بنوك بي.إن.بي باريبا الفرنسي ويوني كريديت الإيطالي وبي.بي.في.إيه الإسباني 3.0 بالمئة و4.7 بالمئة و5.1 بالمئة على الترتيب.

وكان قطاع التكنولوجيا خاسراً كبيراً آخر وأغلق مؤشره منخفضاً 1.5 بالمئة. وتصدرت أسهم شركات الرقائق الإلكترونية الهبوط بعد أن أعلنت شركة مايكروتشيب الأمريكية، عملاق صناعة أشباه الموصلات، نتائج مخيبة للآمال.

ووصلت الارتدادات العالمية إلى الأسواق الأمريكية، إذ افتُتحت الأسهم الأمريكية على انخفاض يوم الجمعة. كما تأثر سعر الذهب العالمي، بأزمتي الليرة التركية والروبل الروسي، اللتين عززتا من قوة الدولار، وهو ما يجعل الذهب أكثر تكلفة على المشترين الحائزين للعملات الأخرى.

وحسب تقرير لـ "رويترز"، تدافع المستثمرون على الدولار كملاذ آمن في ظل انهيار العملة التركية بما يصل إلى 23 بالمئة إلى مستوى قياسي منخفض، وانحدار الروبل الروسي إلى أدنى سعر في أكثر من عامين وهبوط اليورو والجنيه الاسترليني إلى أضعف مستوياتهما في عام.

وقال أولي هانسن المحلل في بنك ساكسو إنه مع امتداد اضطرابات تركيا إلى أسواق أخرى فإن الذهب، الذي ينظر إليه تقليدياً كاستثمار آمن في أوقات الضبابية، استقطب بعض الاهتمام الإضافي.

وأضاف قائلاً "هناك معركة قائمة بين ازدياد قوة الدولار وبعض الطلب على الملاذات الآمنة الناشئ عن خطر انتقال عدوى انهيار الليرة".

واستقر الذهب في المعاملات الفورية عند 1211.94 دولار للأوقية (الأونصة) بحلول الساعة 17:43 بتوقيت جرينتش، بينما قفز مؤشر الدولار أكثر من 0.9 بالمئة. ويتجه المعدن الأصفر لإنهاء الأسبوع بلا تغير يذكر بعد انخفاضات لأربعة أسابيع متتالية.

صوتان في تركيا

وفي سياق التفاعل مع هذه الأزمة النوعية التي تهز الاقتصاد، لا يبدو أن الصف التركي موحد تماماً. ففيما ينتهج أردوغان استراتيجية التحدي والمواجهة، ترتفع أصوات مسؤولين وصناعيين أتراك، بمطالب للبحث عن مخارج سريعة للأزمة الراهنة.

وكان من الملاحظ أن الخطاب الذي استخدمته الخارجية التركية، كان مختلفاً عن ذلك الذي استخدمته وزارة التجارة، أو الذي أدلى به صناعيون أتراك.

فقد حذّرت الخارجية التركية، يوم الجمعة، الولايات المتحدة من أن العقوبات والضغوط ستؤدي فقط إلى الإضرار بالروابط بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي، وقالت إن أنقرة ستواصل الرد عند الضرورة على الرسوم الجمركية الأمريكية.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية حامي أقصوي في بيان إن تركيا تريد حل الخلافات عن طريق الدبلوماسية والحوار والنوايا الحسنة والتفاهم الثنائي.

أما وزير التجارة التركية، فقد ناشد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن يعود إلى طاولة المفاوضات بشأن الرسوم الجمركية قائلاً إن الخلاف التجاري بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي ينبغي حله عن طريق الحوار.

وقال الوزير روحصار بيكجان في بيان "المحاولات المتكررة لإبلاغ الإدارة الأمريكية بأن أيا من المعايير المعلنة وراء الرسوم الجمركية الأمريكية لا ينطبق على تركيا لم تؤت ثمارها حتى الآن".

"بالرغم من ذلك، نحن نناشد الرئيس ترامب العودة إلى طاولة التفاوض - هذا أمر يمكن، بل ينبغي، حله عن طريق الحوار والتعاون".

بدورها، دعت غرفة صناعة اسطنبول، أكبر الغرف التجارية التركية، يوم الجمعة، إلى إجراءات عاجلة لاحتواء العواقب المحتملة للتراجع الحاد لليرة على الاقتصاد الحقيقي قائلة إن التقلبات تحولت إلى مصدر لعدم الاستقرار المالي.

وقال إردال باخشيوان رئيس الغرفة في بيان مكتوب "تقلبات سعر الصرف الأجنبي وصلت إلى حد يهدد جودة ميزان المدفوعات".

كيف تعامل أردوغان مع الأزمة؟

بدوره، كانت استراتيجية الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تتبنى التحدي ومحاولة رص الصفوف للمواجهة، والتلويح بالمزيد من الارتماء في "الحضن الروسي".

فقد دعا أردوغان الأتراك إلى تجاهل التقلبات في سعر صرف الليرة التركية قائلاً إن البلاد تتجه إلى تسجيل نمو قياسي على الرغم من الهجمات الاقتصادية التي تواجهها.

وجدد أردوغان نداءه إلى الأتراك لبيع الدولار من أجل دعم الليرة. وقال "أولئك الذين يظنون أنهم سيجعلوننا نركع عن طريق الاحتيال الاقتصادي لا يعرفوننا على الإطلاق".

وخاطب أردوغان حشداً تركياً، قائلاً: "الدولار لا يستطيع عرقلة مسيرتنا. لا تقلقوا".

ووصف أردوغان هذه الأزمة بأنها "معركة وطنية"، قائلاً "أقولها مجدداً من هنا. إذا كان هناك من يحتفظ بالدولار أو الذهب تحت وسادته، فعليهم أن يذهبوا لتحويلها إلى الليرة في بنوكنا. هذه معركة وطنية". وأضاف: "هكذا سيكون رد شعبنا على من يشنون حربا اقتصادية ضدنا".

وكان لافتاً، أن يُجري أردوغان اتصالاً هاتفياً مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين. وأن تتم الإشارة إلى أن الاتصال تناول العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين.

وقبل أيام، تلقى الاقتصاد الروسي، والروبل، صفعة نوعية، عبر عقوبات أمريكية جديدة، على خلفية الهجوم الكيميائي الذي استهداف عميلاً روسياً سابقاً في لندن.

سياسة أردوغان

ويعتقد مراقبون أن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يواجه هذه الأيام أصعب التحديات الاقتصادية، منذ وصوله للسلطة عام 2002. وهو ذاته وصفها بـ "الحرب الاقتصادية"، مشدداً أن تركيا لن تخسر فيها، حسب وصفه.

لكن هذه التصريحات لم تخدم الليرة فعلياً. فالأخيرة سارت سريعاً في مسار من التدهور. ويخشى مراقبون أن تسبب عدوى عالمية، خاصة في الأسواق الأوروبية.

وحسب تقرير مفصّل لـ "فرانس برس"، رأى المحلل لدى "إكس تي بي" ديفيد تشيثام في مذكرة أن تراجع الليرة التركية الجمعة "يظهر أن المستثمرين متخوفون بشكل متزايد من أزمة نقدية شاملة وشيكة".

وقال مايكل هيوسون المحلل لدى "سي إم سي ماركتس" إن "المستثمرين كانوا يعتبرون الأزمة النقدية في تركيا مشكلة محلية. لكن يبدو أن سرعة تدهور (الليرة) تعزز المخاوف من احتمال انكشاف مصارف أوروبية على النظام المصرفي التركي".

وفي مواجهة هذا الوضع، أشار أردوغان الجمعة بالاتهام إلى "لوبي معدلات الفائدة" من غير أن يحدد ملامح هذه الجهة الغامضة.

وكان أعلن في خطاب سابق ليل الخميس الجمعة "إذا كان لديهم دولارات فلدينا شعبنا ولدينا حقنا ولدينا الله"، ما عزز مخاوف الأسواق.

الخلاف حول معدلات الفائدة

وحرصاً منه على توجيه إشارات إيجابية إلى الأسواق، شدد وزير المال الجديد براءة البيرق، وهو صهر أردوغان، على "أهمية استقلالية البنك المركزي" التركي.

وقالت "فرانس برس" إن البيرق سعى عبثاً منذ تعيينه في هذا المنصب بعد إعادة انتخاب أردوغان في حزيران/يونيو، لطمأنة الأسواق التي تنظر بقلق إلى هيمنة الرئيس بشكل متزايد على الشؤون الاقتصادية وتتخوف من مواقفه البعيدة عن النهج التقليدي.

وأردوغان الذي بات يمسك بكامل الصلاحيات التنفيذية بموجب تعديل دستوري، يمكنه من تعيين حاكم البنك المركزي، يعلن صراحةً معارضته لرفع معدلات الفائدة من أجل ضبط التضخم.

إلا أن العديد من خبراء الاقتصاد يدعون إلى زيادة معدلات فائدة البنك المركزي لكبح التضخم، عملاً بوسيلة تستخدم بصورة تقليدية في العالم لضبط ارتفاع الأسعار ودعم العملة الوطنية، ويرون أن ذلك أمر لا بد منه.

إلى أين؟

وقد يكون السؤال الأبرز في الساعات والأيام القليلة القادمة، هل سيهدأ مسار تدهور الليرة التركية، أم سيتسارع؟، وهل سيغيّر الرئيس التركي من استراتيجية المواجهة والتحدي، بغية تليين الأزمة مع الأمريكيين، أم العكس؟

يعتقد محللون أن الرئيس التركي، يفضّل سعراً منخفضاً لليرة التركية، لتحقيق مكاسب عديدة على صعيد الاقتصاد "الحقيقي"، من بينها، تعزيز تركيا كجاذب للسياحة وكذلك للمستثمرين من الخارج، بسبب انخفاض الليرة مقابل الدولار. لكن ذلك سينعكس بطبيعة الحال، وبصورة قاسية، على دخول الطبقة الوسطى من الأتراك، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أصوات في تركيا تطالب الرئيس بإيجاد حلٍ سريع لأزمة القس الأمريكي.

وفيما يرزح الرئيس التركي تحت ضغوط قاسية، يجهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في جمع النقاط التي يمكن أن ترفع من شعبيته قبيل انتخابات نصفية للكونغرس الأمريكي، في تشرين الثاني القادم.. حيث يمكن لقضية "القس الأمريكي"، أن تعزز من شعبيته في أوساط اليمين المتدين في الولايات المتحدة الأمريكية.

ترك تعليق

التعليق