الدكتور محمد العمادي.. الاقتصادي الشريف، الذي أحب حافظ الأسد من كل قلبه


لا يستطيع الدكتور محمد العمادي، وزير الاقتصاد الأسبق، أن يمسك نفسه من البكاء، كلما جاء ذكر حافظ الأسد أمامه، وقد كان لافتاً خلال جلسة مجلس الشعب التي أُعلن فيها عن موته في العام 2000، أن العمادي كان أول المنهارين بالبكاء، ثم فيما بعد استمرت معه هذه الحالة في كل مرة يضطر فيها للحديث عن حافظ الأسد.

بكاء العمادي على حافظ الأسد في كل مرة، لم يستطع أحد أن يجد له تفسيراً مقنعاً، سيما وأن الرجل يحظى باحترام حقيقي بين كل السوريين، بل إن البعض ذهب إلى أن العمادي ينتمي إلى فصيلة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، الذي كان يرى بحافظ الأسد أشياءً لم يستطع الشعب السوري على مدى 30 عاماً من حكمه، أن يكتشفها.

ويصر العمادي في ذكرياته التي دونها عبر بعض اللقاءات الصحفية بعد موت حافظ الأسد، على أن هذا الأخير كان يحبه كثيراً، لدرجة أن جميع الوشايات التي كانت تصل إليه من قبل المسؤولين الآخرين، كان يرد عليها باطمئنان، "أنا أثق بمحمد".
 
ومهما يكن من شأن إشارات الاستفهام المتعلقة بطبيعة العلاقة التي كانت تربط العمادي بحافظ الأسد، فإننا لا يمكن أن نتجاهل الدور الكبير الذي لعبه كوزير للاقتصاد لسنوات طويلة ومتفرقة، بدأت منذ العام 1972، واستمرت حتى العام 2001، تخللها فترة انقطاع من العام 1979 وحتى العام 1985. وهو دور يعتبره الكثير من الاقتصاديين بأنه أنقذ سوريا في مراحل كثيرة، وكان له الأثر الأكبر في الحد من جموح حافظ الأسد الذي كان يخطط لنهب كل ثروات سوريا لصالحه ولصالح أقاربه.. إلا أن العمادي بحسب العديد من المراقبين، لعب دوراً ملموساً في بث الرحمة في نفس حافظ الأسد، عبر تفانيه في العمل وحبه لبلده، الأمر الذي كان يجعل الأسد يخجل من جشعه في نهب ثروات بلده.

لذلك من المهم كثيراً أن نتوقف عند شخصية الدكتور محمد العمادي، وأن نتعرف على أبرز الأدوار التي لعبها في الاقتصاد السوري، ضمن سلسلتنا التي نتحدث فيها عن الاقتصاديين السوريين، والذين ساهموا في تشكيل هوية الاقتصاد السوري عبر تاريخ سوريا المعاصر.


أزمة الثمانينات الاقتصادية

استدعى حافظ الأسد، الدكتور محمد العمادي من الكويت في شهر نيسان من العام 1985، لكي يتولى وزارة الاقتصاد، بعد أن أصبح الاقتصاد السوري على الأرض، بفعل ممارسات الأسد وأخيه رفعت، التي بددت الاحتياطي النقدي، وأدت كذلك إلى خسارة سوريا للدعم المالي الذي كانت تقدمه دول الخليج العربية، بعد موقف حافظ الأسد المؤيد للثورة الإسلامية في إيران، ووقوفه إلى جانبها ضد العراق.

كما شهدت تلك الفترة خروج رفعت الأسد من سوريا، مقابل ثمن باهظ، كلف سوريا جزءاً كبيراً من خزينتها، وذلك بعد أزمة عسكرية، كادت تؤدي إلى قصف مدينة دمشق واندلاع مواجهات حربية بين الشقيقين.

وبحسب العمادي، أنه عندما تولى وزارة الاقتصاد في العام 1985، فوجئ بعدم وجود احتياطي نقدي من العملات الأجنبية في المصرف المركزي، وهو ما يعني إيقاف جميع عمليات الاستيراد من الأسواق الخارجية، والتي تتم عادة بالدولار. وهو بالفعل القرار الذي اتخذه على الفور، رافعاً شعار بأن الأولوية في الاستيراد من أجل الخبز فقط، وأن ما تبقى هو مواد كمالية لا ضرورة لاستيرادها، بما فيها بعض المواد الأساسية، كالسكر والشاي والقهوة والزيت، وغيرها العديد من المواد الغذائية.

وبالفعل نجحت سياسة العمادي، في توفير أول رصيد في البنك المركزي من العملات الأجنبية، والذي بلغ في العام 1986 نحو 30 مليون دولار فقط.

وفي هذه الأثناء كانت خطته تقوم على تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية، من القمح والخضروات والفواكه، وهو ما نجح في تحقيقه كذلك مع نهاية العام 1989.. إذ أصبحت سوريا في ذلك التاريخ، ولأول مرة، دولة غير مستوردة للقمح، ومثلها للعديد من المواد الغذائية.

رخاء التسعينيات الاقتصادي

بعد حرب الخليج الثانية في العام 1990، وموقفها المساند للتحالف الدولي ضد العراق، دخلت سوريا مرحلة جديدة من العلاقات مع دول الخليج وأمريكا على وجه التهديد، وهو ما أدى إلى عودة المساعدات الخليجية إلى سوريا، بالإضافة إلى فتح أبواب دول الخليج لاستقبال العمالة السورية، بأعداد كبيرة.

وكان الدكتور محمد العمادي، ومنذ العام 1986، قد اشتغل على ثلاثة مشاريع اقتصادية استراتيجية، لإخراج الاقتصاد السوري من محنته واعتماده على امكانياته الذاتية، ومن هذه المشاريع، كان فتح باب الاستثمار للقطاع الخاص، بالإضافة إلى إنشاء سوق للأرواق المالية، وفتح المجال للمصارف الخاصة للعمل على الأراضي السورية، والاستفادة من التحصيلات الضريبية من خلالها.

إلا أن حافظ الأسد لم يكن مقتنعاً بفتح الاقتصاد السوري على هذا النحو، واكتفى على استحياء بإصدار قانون رقم 10 للاستثمار في العام 1991، مع وضع شروط وتعقيدات لم تؤد إلى جذب القطاع الخاص، سوى نحو الاستثمار في قطاع واحد وهو النقل، بينما لم تشهد باقي القطاعات أية استثمارات ذات أهمية تذكر، إلا في بعض الصناعات الغذائية، التي كانت السوق الداخلية جوعى لها، وتحقق أرباحاً طائلة لأصحابها.

تميزت تلك الفترة من التسعينيات، بتوسع النشاط الاستثماري الحكومي، نتيجة لتدفق المساعدات الخليجية والدولية، إلا أن هذه الفترة لم تطل كثيراً، وتوقفت بشكل شبه تام في العام 1995، وذلك بسبب موت باسل الأسد في العام 1994 في حادث سيارة على طريق المطار. حيث أراد حافظ الأسد أن تموت كل سوريا مع موت ابنه، وانشغل حتى موته في العام 2000 بتهيئة وريث آخر لحكمه، والذي كان بشار الأسد، بينما أهمل شؤون البلاد والعباد، وعاد الاقتصاد السوري ليرزح تحت ركود استمر حتى العام 2002.

العمادي وبشار الأسد

رغب بشار الأسد في استمرار الدكتور محمد العمادي في منصب وزير الاقتصاد، إلا أن هذا الأخير أعرب عن عدم رغبته بالأمر، وطلب اعفائه من منصبه في العام 2001، إلا أن بشار الأسد أعاد استخراج مشاريعه التي قدمها لوالده في الثمانينيات، وطلب منه الإشراف على تنفيذها، ومنها مشروع إنشاء سوق للأوراق المالية، وإطلاق المصارف الخاصة، بالإضافة إلى تعديل قانون الاستثمار بحيث يصبح أكثر جذباً للمستثمرين.

فوافق العمادي على المهام الجديدة التي تم تكليفه بها، وهو ما استطاع انجازه لاحقاً، بدءاً من العام 2008 وما بعدها.

العمادي والموقف الأخلاقي من نظام الأسد

يُؤخذ على الدكتور محمد العمادي موقفه المحابي لنظام الأسد، وعدم انتقاده له، حتى في تلك القضايا التي ظهر فساده المالي بها.
فعلى سبيل المثال، في الوقت الذي كان يجهد فيه العمادي لتأمين احتياطي نقدي جديد لسوريا، حتى وصل إلى نحو مليار دولار في أوائل التسعينيات، كما ذكر العمادي ذاته، كانت أموال باسل الأسد في البنوك النمساوية تبلغ 13 مليار دولار، أي أكثر من عشرة أضعاف الاحتياطي النقدي لسوريا.. وهو ما لم يعلق عليه أو ينتقده العمادي أبداً.

وخلال حكم بشار الأسد، اختفى صوت العمادي تماماً، وهو يراه يسلم مقاليد الاقتصاد لأقاربه، وصمت تماماً عن رفض رامي مخلوف الدخول لبورصة دمشق بعد افتتاحها في العام 2009، والتي كان العمادي يرأس مجلس إدارتها، وكان أحد المُفتين بعدم جاهزية "سيرياتيل" للدخول إلى هذه السوق..

"أبو الاقتصاد" السوري
 
ومهما يكن من ملاحظات على أداء العمادي، فإن أحداً لا ينكر نزاهة الرجل ووطنيته، وإخلاصه في عمله، حتى بات يطلق عليه لقب "أبو الاقتصاد السوري". والكثير من المحللين يرون أنه لولا العمادي، لكانت سوريا أصبحت، ومنذ الثمانينات من القرن الماضي،  دولة شبيهة بدول المجاعات الأفريقية.. وهو ما تحقق لاحقاً مع حكم بشار الأسد وغياب العمادي.

ترك تعليق

التعليق