اقتصاد التهريب في سوريا.. هل يحاربه النظام حقاً؟


في مطلع العام 2017، شاهد الناس في أحد المولات وسط دمشق، منتجات مستوردة بأسعار خيالية. وكان من بين البضائع المعروضة، سرير للأطفال بسعر 250 ألف ليرة سورية، وسترة نسائية بـ 52 ألف ليرة، وحقيبة صغيرة بـ 15000 ليرة. وجميع تلك البضائع تفتقد لبلد المنشأ والبيانات الجمركية الخاصّة بها!

ظروف الحرب الدائرة في سوريا فتحت مجالاً واسعاً أمام مُمتهني التهريب الذين مارسوا أنشطتهم غير القانونية، بانتشارٍ واسعٍ خلال السنوات الماضية، في وضح النهار، وبغطاء من أجهزة الأسد الأمنية، مُحقّقين ثروات طائلة ومتراكمة.

العقوبات الاقتصادية وضعف دور المؤسسات الرسمية العاجزة أمام تأمين أبسط مستلزمات الحياة للناس وانخفاض الإنتاج المحلي دفع نظام الأسد إلى استثمار ظاهرة التهريب وغض الطرف عنها بما تحمل من مخاطر لا يختلف تأثيرها السلبي المنعكس على المجتمع عن استخدام الأسلحة المحرمة، حتّى ولو استثنينا المخدرات منها.

أحد رجال الأعمال الناشئين في دمشق رفض الكشف عن اسمه للدواعي الأمنية المعتادة منذ تسعة أعوام، صوّر لـ "اقتصاد" واقع ظاهرة التهريب، حيث أكّد أنّ وجهة النظر الرسمية ترى أنشطة التهريب ضرورة حتمية تدعم الاقتصاد الوطني وتُعوّض الإنتاج المحلي، لكنّها تتجاهل الضرر المؤدّي لانخفاض قيمة الليرة السورية وارتفاع معدّلات البطالة وانتشار الفساد وتشوّه الأسعار، ناهيك عن الأضرار الصحية الناتجة عن المواد الغذائية منتهية الصلاحية وغير الصالحة للاستخدام.

وبحسب محدثنا فإنّ منافذ التهريب قبل الحرب كانت بعيدةً عن البوابات الحدودية البرية والبحرية الرسمية التي تحولت فيما بعد إلى أهم منافذ تهريب البضائع على مرأى من مؤسسة الجمارك المعنية بمكافحتها وبتسهيلٍ منها، يُضاف إليها المعابر الحديثة بين المناطق المحررة من سلطة نظام الأسد ومناطق سيطرته والتي ينشط خلالها تهريب البضائع التركية التي تتجاوز 40% من إجمالي المواد الحاضرة في الأسواق، يليها البضائع الإيرانية الواردة من المنافذ البحرية المفتوحة في طرطوس واللاذقية والمنافذ البرية باتجاه لبنان.

كبحاً لتهريب المواد خارج سوريا، قام نظام الأسد مؤخراً بتمييز لون مادة البنزين، لكن ما زالت بقيّة المواد الإستراتيجية الأخرى كالـ "الدجاج واللحوم والأدوية والألبسة والمشتقات النفطية والدقيق" عُرضةً للتهريب حتّى اليوم، وهنا تكمن المفارقة، فكيف يتم تهريب ذات المواد إلى خارج البلد وأيضاً يتم تهريبها إلى داخله؟

شعار "سورية خالية من التهريب" الذي أطلقه مجلس وزراء نظام الأسد مطلع العام الحالي يحمل في طيّاته أكثر من بعد، فهو من ناحية يهدف لتحميل التجار مسؤولية أزمة المواد المفقودة، ومن ناحية أخرى يُستخدم كأهم أدوات حرب "المافيات" التي باتت تتقاسم حكم الاقتصاد السوري. ويتحاشى النظام الصدام مع أمراء الاقتصاد الذي سعوا في بداية طريقهم إلى بناء نفوذ كبير مؤثر على الحياة الاقتصادية مستثمرين بذلك ضعف الصناعيين المفتقدين لمواد الخام، والإجراءات المعقدة للاستيراد بشكل قانوني وارتفاع التعرفة الجمركية، بحسب أحد العاملين السابقين في مؤسسة الجمارك.

وفيما يتعلّق بشعار "مكافحة التهريب من المعبر إلى المتجر"، فترجمته الواقعية، تحويل البضائع المهربة من متجرٍ يبيع بالمفرق والذي يُعدّ آخر حلقات مسلسل التهريب إلى متجرٍ آخر، عبر مصادرتها باسم القانون وإعادة بيعها، وتجاهل القوافل التابعة لأمراء التهريب، وبمعنى آخر، اقتصار حملات الجمارك على صغار التجار فقط.

إدارة الجمارك حقّقت في العام 2018 عبر مخالفات البيانات الجمركية 758 مليون ليرة سورية يومياً، تم تسوية 95% منها، الأمر الذي يشوبه شبهات حقيقية حول كيفية إجراء التسوية والتحقق من مصدر البضائع وصلاحيتها للاستخدام، بالسرعة المعمول بها.

ظاهرة التهريب في سوريا ليست مسألة مواد بسيطة وقليلة إنّما باتت اقتصاداً متكاملاً يقدّر حجمها بنصف الموازنة العامة، والقضاء على الظاهرة أكثر من شبه معقد، كونها أصبحت مصدراً سريعاً وناجحاً للثراء من الجهات التي باتت هي صاحبة القرار التنفيذي بالاستمرار أو التوقف. فلا يمكن لجهات رسمية تتحكم بقراراتها مزاجية التجار ويسودها الارتباك والارتجال أن تجد حلولاً حقيقية لمنع ظاهرة التهريب.

وبالنسبة لسرير الأطفال والسترة النسائية والحقيبة فمازالوا معروضين للبيع بذات الأسعار ونفس المكان رغم مئات حملات مديرية الجمارك ومكافحة التهريب!


ترك تعليق

التعليق