شرق الفرات.. صراع الثروة، ولعنة الجغرافيا


عانت المنطقة الشمالية الشرقية في سوريا، من إهمال متعمد من قبل نظام البعث، على مدى عقود طويلة، منطلقاً من مفهوم غريب، مفاده أن هذه المنطقة وعلى الرغم من أنها تحوي أكثر من 70 بالمئة من مقدرات سوريا النفطية والزراعية والحيوانية، بالإضافة إلى الثروة المائية الكبيرة الموجودة فيها، إلا أنها لم تكن تستحق التنمية، وفق ما كان يوحي به سلوكه وتصرفاته تجاهها.. فقد ظلت هذه البقعة الجغرافية الجميلة من سوريا، فاقدة لأبسط مقومات الحياة الحضرية، من ماء وكهرباء ومدارس وطرقات، بينما تتنازع مواقع النفوذ فيها، السلطات العشائرية والقبائلية، وكل بحسب درجة ولائه للنظام، وبعيداً عن أي إدراك، من أن هذه المنطقة، بالإضافة إلى كونها موطناً للثروة في سوريا، فإنها كذلك مكاناً للتنوع السكاني والثقافي، والذي حرص النظام على الدوام، على تغذية أدوات الصراع فيه، وذلك من أجل أن يجد مبرراً للتخلف عن القيام بالدور التنموي المنوط به.

وكان واضحاً منذ بداية الثورة السورية في العام 2011، أن منطقة الجزيرة السورية، تحركت بشكل مختلف عن ثورة باقي المناطق السورية، التي كانت تطالب بالحرية وبإسقاط النظام، إذ على الفور، استغل أحد الأحزاب الكردية، الذي هو صنيعة النظام السوري، هذه الثورة، ليعلن رغبته بإنشاء كيان كردي مستقل عن الوطن الأم سوريا.

وعلى مدى أكثر من ثماني سنوات، حارب النظام السوري جميع المناطق التي ثارت عليه، وقصفها بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة، ودمر مدنها وهجر أهلها، إلا أنه أبداً لم يتعرض للمناطق التي كان يسيطر عليها هذا "الكردي"، وظل ينظر إليها بقلق أقل من سواها من باقي الجغرافية السورية، مع أن جميع الأحداث كانت تشير إلى أن الأطماع الخارجية في منطقة الجزيرة السورية، هي أكبر بكثير من غيرها، بالإضافة إلى أنها أكثر بقعة في سوريا، يمكن أن يسيل لعاب الدول الكبرى عليها.. لسبب بسيط، وكما ذكرنا في المقدمة، بأنها خزان سوريا من جميع الثروات، الباطنية والغذائية والسكانية.

لكن يبقى هذا الكلام، فاقداً للدقة، دون استعراض ما تحويه هذه المنطقة من ثروات، وما يمكن أن تنتجه في المرحلة القادمة، وبعدها يمكن أن نعرف لماذا هذا الصراع على هذه المنطقة، التي أهملها النظام السوري، وتتقاتل عليها اليوم الدول الإقليمية والكبرى.

عندما سيطرت ما تسمى بـ "قوات سوريا الديمقراطية – قسد"، على المنطقة الشمالية الشرقية من سوريا، فهي سيطرت فعلياً، على نحو 90 بالمئة من نفط البلاد، إذ كان يبلغ إنتاج سوريا من النفط قبل العام 2011، نحو 400 ألف برميل يومياً، منها 360 ألف برميل يومياً من المناطق الواقعة شرق الفرات.

كما تضم المنطقة نحو 40 بالمئة من غاز سوريا، بإنتاج يقدر بـ 10 مليون متر مكعب يومياً، فيما تتركز باقي حقول الغاز في ريف حمص الشرقي، بالقرب من البادية.

وتقدر الدراسات بأن احتياطي النفط في المنطقة الشرقية من سوريا، يبلغ نحو ملياري برميل، يمكن أن يصل إنتاجها اليومي لوحدها أكثر من 450 ألف برميل يومياً، في حال تطوير عمليات الاستخراج، وحفر آبار جديدة.

أما على صعيد الثروة الزراعية، فهي تنتج أكثر من 70 المئة من محصول القمح في سوريا، بالإضافة إلى أكثر من 80 بالمئة من محصول الشعير.

وتحوي منطقة الجزيرة السورية ثروة حيوانية تقدر بأكثر من 25 مليون رأس من الأغنام، وهي تعادل أكثر من 70 بالمئة من مجموع باقي الثروة الحيوانية في سوريا..

أما على مستوى الأنهار والسدود، فمعروف أن المنطقة هي خزان سوريا المائي، ويمر فيها نهران، هما الأكبر في سوريا والمنطقة، الفرات ودجلة، حيث يوجد على نهر الفرات ثلاثة سدود كبرى، هي البعث وتشرين وسد الفرات، الذي يبلغ طول البحيرة خلفه، نحو 80 كيلو متر، بعرض 4 كيلو متر، تزود المنطقة بالكهرباء وبمياه الري.

وتزداد أهمية المنطقة من الناحية الجغرافية، والتي تبلغ مساحتها نحو 35 بالمئة من مساحة سوريا، في أنها تقع بين دولتين كبيرتين، هما العراق وتركيا، وتعتبر ممراً تجارياً مهماً لكليهما، بالإضافة إلى أنها ممر لأنابيب النفط العراقية المتوقفة منذ العام 1980، والتي كانت تؤمن دخلاً سنوياً لسوريا، يقدر بنحو مليار دولار.

اليوم يمكن القول، إن كل هذا لم يعد ضمن مقدرات الدولة السورية الحالية، وربما المستقبلية، نظراً لتدخل دول كبرى، واستوطانها في هذه المنطقة، والتي لن تخرج منها بسهولة، قبل أن تستنزفها، أو تستخدمها لإضعاف الدولة السورية والضغط عليها، مهما كان النظام الذي يحكمها، وذلك خدمة لمصالح إسرائيل.

وكذلك يمكن القول، إن دخول تركيا على الخط، بإعلانها الاتفاق مع أمريكا على إقامة منطقة آمنة على طول الشريط الحدودي مع سوريا، وبعمق أكثر من 15 كيلو متر.. ما هو إلا مقدمة لاقتطاع هذا الجزء بشكل نهائي من سوريا، وإخضاعه لسيطرة الدول الكبرى، بينما يتحمل مسؤولية كل ذلك، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي كان يعلم مدى خطورة خطواته الانفصالية ومدى إزعاجها لدول الإقليم، وبالتالي سمح للدول الأخرى بالتدخل، بذريعة حماية أمنها.


ترك تعليق

التعليق