‏ما قصة "آبار رأس العين".. وعلاقتها بأزمة مياه الحسكة؟!


أعلنت إدارة حزب "الاتحاد الديمقراطي" الذاتية مؤخراً عن عزمها حفر عشرات الآبار الارتوازية لتأمين مياه شرب لمدينة الحسكة بعد طلب الجيشين التركي والوطني السوري، برأس العين، تزويد كامل المناطق الخاضعة لهما بالكهرباء من سدود الفرات، لإعادة تشغيل "آبار علوك".

وقالت الإدارة الكردية التي ورثت مشاكل المياه من حكومة النظام إنها ستحفر خلال شهر 50 بئراً في منطقة الحمة بغزارة حوالي 600 متر مكعب  لضخ المياه لأحياء المدينة، لكنها تقر بأن هذه الآبار ليست بمستوى محطة مياه علوك (30 بئراً) بعد إيقاف الجيش الوطني عملها مرات عدة، لذلك تسعى إلى استجرار مياه الشرب من مصادر أخرى.

ومع كل توقف لمضخات "آبار علوك" الواقعة تحت سيطرة "الجيش الوطني" منذ تشرين الأول الماضي شرق مدينة رأس العين، تتعالى أصوات مسؤولي النظام والإدارة الذاتية في مدينة الحسكة محذرة من موت الناس عطشاً في مركز المحافظة بسبب شح مياه الشرب، فمتى بدأت مشكلة  آبار رأس العين؟!

مشكلة المياه بعموم محافظة الحسكة ليست مقتصرة على شح المياه بمركز المحافظة، بل لها أوجه شبهٍ مع قضية فلاحي القطن بمصر المطروحة  بفلم "الأرض" الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1970 تجسيداً لرواية عبد الرحمن الشرقاوي. فالماء موجود لكن المسؤولين منعوا المزارعين من الزراعة وحرثوا قطناً زرعه أهالي منطقتي الخابور والجرجب أمام أعينهم بحجة مخالفتهم تقنين الري وهو يوم أو يومين بالأسبوع، فيما سالت المياه الجوفية من تحت أراضيهم لتنقل عبر أنهار وقنوات مكشوفه لتأمين مياه الشرب لمدينتي تل تمر والحسكة، وكان مصيرها الفقدان تسرباً في الأرض أو تبخراً في الجو أو من خلال سرقتها من مزارعي ريف  تل تمر.

وكانت أحياء مدينة الحسكة تعتمد في شربها سابقاً بشكل رئيسي على مياه السد الشرقي وبحيرة السد الغربي المغذي للسد الشرقي القادمة من منطقة ينابيع رأس العين عن طريق قناة مكشوفة (2-1m) وبطول (64 كم)، وبعد انعدام جريان الينابيع في عام 2000 بدأ ضخ المياه بشكل قسري من الينابيع ثم حفرت 116 من الآبار الارتوازية في رأس العين لتصب في مجرى نهري الخابور والجرجب لتصل إلى سدي الخابور.

ومع الزمن بدأت مواصفات المياه الفيزيائية والكيمائية بالتغير نحو السوء بسبب تغير مواصفات الطبقات الحاملة لهذه المياه من ناحية، ومن ناحية أخرى التلوث الحاصل في قناة الجر كونها مكشوفة وتمر بعدد كبير من التجمعات السكانية وينتج عن ذلك تلوث في المياه الوصل إلى المصب، هذه المياه وعلى المدى القريب وبعد عدة سنوات تصبح غير صالحة للشرب، هذا عدا عن فقدان بعض الماء بالتبخر والتسرب في طبقات الأرض، فأدرك المسؤولون فشل مشروعهم فأتبعوه بمشروع حفر جديد في قرية علوك لنقل المياه عبر قساطل إلى محطة مياه مدينة الحسكة مباشرة.

المشروع أمسى حقيقةً بناء على مقترح من مدير مديرية الموارد المائية المهندس سمير مورا في الحسكة لحفر 30 بئراً ارتوازياً جديداً في منطقة رأس العين (منطقته: الأمل الأولى)، ونقل مياهها عبر القساطل إلى محطتي تل تمر ثم الحسكة.

واعتمدت خطة الحفر من قبل وزارة الري (سابقاً) بالكتاب رقم 3463 تاريخ 29/12/2009، بهدف تأمين مصدر "إسعافي"  لمياه شرب الحسكة بسبب المدة الزمنية الطويلة التي سوف يستغرقها مشروع جر المياه من نهر دجلة، وبالتالي الحاجة إلى مصدر مائي إسعافي إلى بلدة تل تمر والحسكة لإرواء حوالي 450 ألف نسمة، أي أنه لم يكن مشروعاً دائماً.

السجن بانتظار الفلاحين الرافضين؟!

في نيسان قبل 10 سنوات، تحول تدشين محافظ الحسكة آنذاك، معذى نجيب السلوم، لمشروع "محطة مياه علوك"، إلى اشتباكات بين رجال الشرطة وأهالي قرية علوك الرافضين لهذا المشروع، لكن الرد من الأجهزة الأمنية كان قاسياً بعد تدمير الأهالي حجر الأساس للمشروع والذي يحمل صورة رأس النظام قرب مبنى البلدية على طريق الدرباسية – رأس العين.

فسُجن عدد من الأهالي بناء على تقارير قيل فيها إنهم حرضوا على هذه الاحتجاجات، وعُذّب هؤلاء قبل الافراج عنهم عبر وساطات ودفع مبالغ كبيرة إلى جانب محاولة السلطات تهدئة النفوس من خلال تقديم الوعود لهم بتوظيف أبناءهم بمحطة الضخ وتأمين تيار كهربائي مستمر للقرية، بعد أن كانت الخطوط خاصة بآبار الخابور والجرجب (116 بئر) بالمشروع السابق.

وبدأت المؤسسة العامة للمياه والصرف الصحي باتخاذ إجراءات سريعة لتنفيذ المشروع حيث تم الاتفاق مع الشركة العامة للمشاريع المائية – شعبة الحفارات- على حفر عدد من هذه الآبار (4 منها)، ثم أعلن عن مناقصة لحفر باقي هذه الآبار وتم التعاقد على عدد منها وإعداد الدراسات التنفيذية لجر المياه من هذه الآبار إلى محطة تل تمر والحسكة بتكلفة تقديرية بحدود 2،5 مليار ل.س (كان صرف الدولار 50 ليرة على الأكثر).

استمرت حكومة النظام بالمشروع رغم أن المراقبة المستمرة لمناسيب المياه الجوفية أكدت وجود هبوط مستمر في المنسوب بين عامي 1998-2008، وحفرت 30 بئراً ارتوازياً على يمين طريق الدرباسية – رأس العين داخل أراضي الفلاحين ولم يعوضوا بحجة وجود حرم للطريق ضمن مساحات الأراضي محل المشروع، وخفت صوت الفلاحين بعد الذي حصل لمن سجنوا على إثر طرد المحافظ  بالحجارة وتكسير حجر التدشين.

كما مزقت الجرافات والآليات الضخمة أراضي المزارعين لمد الأنابيب على مسافة تزيد على 70 كم دون أي تعويضات، باستثناء دفع تعويضات زهيدة لما خربته الآليات من محاصيل صيفية بناء على تقدير إنتاج المساحة المدمرة بحدود 12 ألف ليرة عن كل 1 دنم وسطياً، حسب نوع المحصول المزروع.

 وكان لسلطات النظام سابقة بحفر 116 بئراً على سرير الخابور رغم إعلانها أن قراءة تصريف مجموع الينابيع في مركز رأس العين تؤكد بدء انخفاض  منسوب الماء مطلع الثمانينات، تزايد بداية التسعينيات حتى وصل التصريف السنوي الوسطي إلى 5.93 م3/ثا عام 1999/2000. وتوقفت  الينابيع عن الجريان بتاريخ 13/4/2001، ولم تقدم وقتها حلاً جذرياً للمشكلة بل لاحقت مياه ينابيع رأس العين الغائرة إلى الأعماق السحيقة عبر حفر هذه الآبار رغم أنها اتهمت آبار الفلاحين السطحية بتجفيف المياه الجوفية.

وقالت الموارد المائية بتقرير الخطة السنوية المعتمدة للمساحات المروية لعام 2008 -2009 إن عدد الآبار المرخصة في المحافظة /24504/ بئراً تروي مساحة قدرها /394159/ هكتار، ويتجاوز عدد الآبار غير المرخصة المستثمرة /9743/ بئراً تروي ما يزيد على /62457/ هكتار من الأراضي لم تكن تسمح الحكومة ممثلة بالري بترخيصها، وردم بعضها في منطقة رأس العين برمي الحجارة الكبيرة والتراب داخلها بحجة تخفيف الاستنزاف، وبعد إدراك النتائج الكارثية وخطأ الاستنتاجات حاولت ترخيص ما بقي منها يصلح للاستخدام.

هذه الإجراءات والتجارب بمصير مزارعي رأس العين أثرت بشكل مباشر وغير مباشر على حياة الناس من الناحية الاقتصادية والاجتماعية حيث تم منع زراعة القطن نهائياً، سنوات عدة، قبل تحديدها بنسبة أقل من 10% من مساحة الأرض، ما أثر على المستوى المعاشي للفلاحين، وبالتالي هاجر الشباب نحو المدن الكبيرة وخارج البلاد وكانت الذريعة هي التخفيف من استنزاف المياه الجوفية.

فشل مشروع دجلة؟!

فشلت الهيئة العامة للموارد المائية في وزارة الموارد المائية بإحياء مشروع جر مياه دجلة عبر توقيع عقد بالتراضي مع شركة "ستروي ترانس غاز الروسية" عام 2014، لتنفيذ المرحلة الأولى من مشروع جرّ مياه دجلة خلال 4 سنوات (2014 -2018)، لكنه لم ينفذ لأن المنطقة خارج سيطرتها وضمن مناطق النفوذ الأمريكي، فبقيت مدينة الحسكة تعتمد على محطة "علوك" وعند توقفها، تعتمد على الشبكة القديمة من سد الخابور أو نقل مياه الشرب من "نفاشة" قرب جبل كوكب.

 وكان العقد غير المنفذ يتضمن إقامة محطة الضخ الرئيسية وأنابيب الدفع في منطقة عين ديوار، وبكلفة تقديرية تصل إلى 30 مليار ل.س. وذلك بعد توقف العمل بالمشروع لعامين مذ أطلقه بشار الأسد بتاريخ 10/ 3/ 2011 على خلفية إبداء الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية استعداده لتمويله وقدم منحة مجانية 300 ألف دينار كويتي من أصل ملياري دولار وهي التكلفة الاجمالية لمشروع دجلة المتوقف.

واعتبرت حكومة النظام -وقتها - أن أهمية المشروع الذي سيوفر 1250 مليون متر مكعب من ماء نهر دجلة سنوياً، توازي أهمية مشروع سد الفرات من حيث تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي للأهالي في المنطقة، عبر إرواء أكثر من 200 ألف هكتار تنتج القمح والقطن بالريف، إضافة إلى توفير نحو 125 ألف متر مكعب من مياه الشرب بما يسهم في القضاء على أزمة مياه الشرب بمدينتي الحسكة والقامشلي.

وضربت الحسكة وعموم الجزيرة أزمة جفاف حادة منذ تولي بشار الأسد الحكم في سوريا عام 2000 خلفاً لوالده، أدت إلى تراجع إنتاج القمح والقطن لعدم توفر مياه الري بمشاريع ري الخابور إلى جانب قرارات حكومية بمنع زراعة القطن برأس العين وهي أهم مناطق الإنتاج المستقر للمحاصيل الاستراتيجية، الأمر الذي خلق مشاكل اجتماعية وصراعات بين الفلاحين أنفسهم على ما تخزنه الأنهار وروافدها من ماء أو مع دوريات حراثة المحاصيل المخالفة، أسفرت عن سقوط جرحى بصفوف الفلاحين.

(الصورة المرفقة أرشيفية لمحطة مياه علوك)

ترك تعليق

التعليق