الأمريكان السوريون.. الكنز المخبوء والاحتياطي الاقتصادي للثورة... 17 مليون دولار من ميتشــغان للثوار

من وراء "حجب" النظام كان مهاجرو سوريا ومهجروها يرنون إلى الوطن الأم، فلا يرون فيه إلا كيانا ينخره الفساد وتسحق الديكتاتورية أهله وحضارته، فينقلب البصر حسيرا ويرتد القلب كسيرا، وينزوي الوطن في ركن قصي مع بقية الآلام التي يهيل السوري عليه تراب التناسي حتى لا تنكأ جراحه.

بعد عقود انتظار، تمزق الثورة الحجب ويتعرف الأبناء المهاجرون إلى وطنهم الحقيقي وتتغير نبرة الصوت الذي كان يذكر سوريا على استحياء وخجل، إلى صرخة ملؤها عزة النفس بـ"الأصل" السوري.

يسارع الأبناء لرد جميل الأم التي عادت شامخة فشمخوا بها، فلا يتركون باباً من أبواب المساعدة إلا ويفتحونه لأهلهم في الداخل، لكن المهاجرين يبقون شبه غائبين عن الاهتمام، فينتابهم شعور لا يستطيعون رده بأنهم ظلموا مرتين.

مرتان.. مرة من إعلام النظام الذي لم يكن ليلتفت إليهم إلا عندما يكون التفاته "تسبيحا" بحمد الحاكم و"عطاياه" التي أغدقها على المهاجرين.. ومرة من إعلام الثورة الذي شغله نقل تطورات البلد الجريح -بكل ما فيها من مجازر ودمار-، عن التعريف بكنز سوريا المخبوء والاحتياطي الاقتصادي لثورتها، كما سيتبين من خلال هذا التقرير المختصر عن فئة من سوريي الولايات المتحدة.

مكان وإنسان
يعيش سوريو الولايات المتحدة في أغنى بلاد العالم ماليا وأكثرها تنوعا عرقيا وثقافيا، وأفضلها -إلى حد بعيد- انفتاحا وتشجيعا للإبداع والابتكار، ناهيك عن أنها أخصب بقاع الأرض قاطبة في العمل الخيري والتطوعي، الذي يبحر على محيط من مئات مليارات الدولارات، وتقوده أكثر من مليون مؤسسة وجمعية تعمل تحت غطاء قانوني، ما زال يكفل مرونة كافية وقدرا مقبولا من الحرية وسرعة المبادرة، حتى بعد تطبيق إجراءات "التضييق" والرقابة اللصيقة على التبرعات، عقب أحداث أيلول/ سبتمبر 2001.

وتوثق مجلة "فوربس" الذائعة الصيت أن 200 مؤسسة خيرية، جمعت 41 مليار دولار في سنة واحدة، علما أن عدد هذه المؤسسات لا يشكل سوى 0.0002% (اثنان بالعشرة آلاف) تقريبا من أصل 1.2 مليون مؤسسة معفاة من الضرائب، وهي ما تعرف بالمؤسسات غير الربحية.

ولهذه المزايا وحدها ربما يستحق سوريو أمريكا أكثر من غيرهم، لقب "وقود الثورة الاقتصادي وكنز سوريا المخبوء"، فكيف إذا جمعنا إلى خصائص المكان، خصائص السوري التي جعلته يسبق -وبالأرقام- معظم نظرائه من المواطنين الأمريكيين، على اختلاف منابتهم.

وحسب بيانات رسمية لمكتب إحصاء السكان الأمريكي، فإن الأمريكي من أصل سوري يرتقي بمتوسط تعليمه ومدخوله على بقية الأمريكيين، فـ35 % من السوريين الذين تجاوزوا 25 سنة يحملون درجة البكالوريوس فما فوق، متخطين النسبة القومية لعموم الأمريكان بـ10%، حيث تبلغ النسبة العامة 24.4%.
وهناك تقديرات ترفع عدد الأطباء السوريين العاملين في الولايات المتحدة إلى 10 آلاف طبيب، يمثلون حوالي 7 بالمئة من مجموع الأمريكان السوريين.

تفوق ثنائي
وعلى المستوى الاقتصادي تظهر بيانات السكان الرسمية لعام 2007، أن متوسط مداخيل الأمريكان السوريين أعلى من المتوسط القومي، فالسوري يحقق أكثر من 46 ألف دولار سنويا، مقارنة بـ37 ألف دولار تمثل المتوسط الوطني لمداخيل الأمريكان عامة، وقياسا إلى 41 ألف دولار يحققها الأمريكي العربي؛ أي إن السوري يعد متفوقا اقتصاديا على أبناء قوميته العربية، وكذلك على مجموع القوميات التي يتكون منها النسيج الأمريكي.

أما تاريخيا فإن السوريين الذين وصلت أولى طلائعهم إلى أمريكا في 1880 هاربين من الفاقة، لم يلبثوا إلا سنوات قليلة ليكونوا أصحاب 3 آلاف مشروع تجاري، وفي 1910 ظهر بينهم أول مليونير!، وقت أن كان لقب مليونير قبل 100 عام يعادل لقب ملياردير اليوم.

والذي يدعو للإعجاب أكثر بهذا التفوق، أنه نابع من مجتمع لا يزال -رغم نموه المتلاحق- يصنف على أنه أقلية، حتى مقارنة بالمهاجرين من أصول عربية، حيث لم يتخط الأمريكان السوريين حاجز 156 ألف نسمة، بحسب إحصاء 2005، ليشكلوا ما نسبته 12% فقط من عرب الولايات المتحدة.

دعم متنوع
كل ماسبق أعلاه يمكن أن نعده سردا نظريا، لكنه يبقى مهماً لنفهم الواقع العملي لشريحة من سوريي أمريكا في تفاعلهم مع ثورة أهلهم.. واقع يمكن أن يستشفه المتابع من خلال التقارير الإعلامية التي تنشرها الصحف الأمريكية، لاسيما المحلية (التي تصدر ضمن حدود ولاية ما).

وتولي بعض الصحف المحلية لنشاط السوريين اهتماما واضحا، لاسيما تلك الصادرة في أماكن تركز هؤلاء المهاجرين، ومنها ولاية ميتشغان التي تضم قرابة 10 آلاف سوري، وهي واحدة من 7 ولايات تجذب السوريين إليها بشكل أكبر من بقية الولايات.

ومن بين التقارير اللافتة ما قدمته صحيفة "ليفينجستون" مؤخرا، عندما تحدثت باستفاضة عن جهود سوريي ميتشغان، الذين لايعرف ثلثاهم (65%) وطنه الأم؛ لأنه لم يولد ولم يترب فيه!، ومع ذلك فقد أسفرت جهود هؤلاء عن جمع ملايين الدولارات، إلى جانب ضغط سياسي متواصل لدفع صانع القرار في واشنطن نحو مزيد من الاكتراث بمأساة سوريا، كما تجلت جهود البعض في السفر المتكرر إلى سوريا؛ لتقديم العون الإغاثي والطبي لمحتاجيه.

فقد خاطر مئات السوريين المستقرين في ميتشغان بحيواتهم، وطاروا آلاف الأميال إلى المناطق الملتهبة في سوريا، أو إلى حدودها، حتى غدت قصص نجاتهم من القتل أو الاعتقال متواترة على الألسن.


نماذج
ومن ضمن هؤلاء المئات، قرابة 50 طبيباً سورياً، استجابوا لنداء إنسانيتهم ومهنتم وأبناء جلدتهم؛ فانطلقوا إلى أرض الميدان لمعالجة الجرحى والمرضى، أو لتسليم ما جمعوه من أدوية وتجهيزات. 

طالب الطب "عبدالله الدهان" واحد من هؤلاء، سافر إلى سوريا مرتين، وهو يخطط لمعاودة الكرة من جديد، رغم المخاطر التي اعترضته في رحلتيه السابقتين، ورغم أنه ولد في الولايات المتحدة ولم يكن يشعر بأي علاقة تربطه بوطنه الأم.. طبعا حتى اندلعت الثورة في 2011.

الطبيب "عبد المجيد قطرنجي" زار سوريا 3 مرات للمساعدة في إجراء عمليات جراحية في مستشفيات ميدانية متنقلة، وهو مثل ابن بلده "الدهان" ولد وتربى في الولايات المتحدة حتى ناهز عمره اليوم 40 عاما، لكنه ما إن وطئ تراب سوريا حتى عاد إلى جذوره، فكان يبادر لعلاج كل سوري، دون تمييز على أساس دين أو طائفة.

يحيى باشا ناشط لم يمنعه كبر سنه (في منتصف الستينات) من القيام بجهود متعددة الاتجاهات في خدمة الثورة، ومنها اجتماعه -مع معارضين أمريكان سوريين- بمسؤولي مجلس الأمن القومي ، مطالبا الحكومة الأمريكية بدعم أكثر فعالية للمعارضة السورية.

فُرادى وجماعات
ما قام به سوريو ميتشغان من رحلات وسلموه من إغاثة وعقدوه من نشاطات، يعد بشكل أو بآخر وجها من وجوه الدعم المالي، فجميع هذه الأعمال تحتاج إلى تمويل لايستهان به، لاسيما عندما تغدو على نطاق عريض ومتشعب.

لكن اللافت للاهتمام أكثر، أن سوريي ميتشغان لم يقنعوا بما قدموه من دعم عيني، بل رفدوه بتبرعات مالية -صرفة- وصلت إلى 17 مليون دولار، خلال السنة الماضية فقط، وفقا لما يؤكده وجهاء من الجالية، فضلا عن أن هناك أفرادا قاموا لوحدهم بمبادرات تبرع بملايين الدولارات؛ من أجل مساعدة أقرباء وأصدقاء لهم في سوريا.

"روزانا حارس" سيدة تقارب الأربعين من عمرها، كانت شاهدة على مجزرة حماة 1982، و هي من السوريين الذين مارسوا حراكا سياسيا ضمن المشهد الأمريكي، لنقل مطالب الثورة السورية وإقناع صانع القرار بدعمها.

وبعد أن تجمد الفعل الأمريكي السياسي، لم تيأس "بنت حماة" فتحولت إلى حقل الإغاثة، وها هي اليوم تساعد في توزيع 129 ألف دولار شهريا على أيتام سوريا، من خلال مؤسسة قدمت حتى الآن 7 ملايين دولار؛ لمساعدة متضررين من الأزمة السورية، بينما جمعت الهيئة الخيرية الإسلامية في "ساوث فيلد" 6 ملايين دولار من المساعدات.

وبعملية حسابية بسيطة، وحتى نفهم مغزى تسمية مهاجرينا في أمريكا بالكنز المخبوء، فإن سوريي ميتشغان وحدهم جمعوا -ودون كثير ضجة ولا مؤتمرات- ما لم تقدمه دول كبرى انتظرنا -نحن السوريون- عامين تقريبا حتى "تمن" علينا باجتماع إغاثي دولي، ونقصد مؤتمر الكويت الأخير.


بلا جعجعة
سوريو ميتشغان الذين نأخذهم كنموذج هنا، لا يشكلون سوى 7 بالمئة من سوريي الولايات المتحدة، ومع ذلك فقد فاقت مساعداتهم بمرات ما تعهد به عملاق اقتصادي كألمانيا مثلا، وصغرت أمام هباتهم تبرعات دول كثيرة غربية وشرقية، وللراغب بالاستزادة أن يعود إلى تقريرين خاصين، نشرتهما "اقتصاد" مؤخرا، الأول بعنوان: أرقام مخزية على أعتاب "مولد التبرعات الكبير"، والآخر تحت عنوان: "اقتصاد" يكشف مفارقات فاقعة من مؤتمر الكويت.

ومقارنة بالحكومات التي تحثنا على "الصيام" طويلا، وإذا دعتنا إلى مائدتها قدمت لنا "بصلة!"، فإن سوريي المهجر، وبالذات أمريكا، قادرون على إطلاق عمليات إغاثة متواصلة، تلبي النداء ساعة صدوره وربما قبله.. إغاثة غير مرتبطة بقمة ولا اجتماع دولي، ولا مرهونة بحسابات ومصالح سياسية ضيقة.. إغاثة تطحن بلا جعجعة، وليس العكس.

والأهم من هذا أن سوريي الـمَهَاجر على اختلاف بلدانهم، قد يكونون بالفعل "الكنز" الذي ادخره الله الكريم لسوريا في أوقات الشدة، ونقصد بها الأوقات التالية لسقوط النظام، عندما يتكشف حجم الدمار الهائل وضخامة الأموال اللازمة لإصلاحه وإعاده إعماره، وهنا سيظهر أن هؤلاء المهاجرين هم الأجدى والأجدر بالثقة من كل حكومات العالم، لأنهم أبناء المأساة وأهلها.. ألم تقل العرب قديما إن النائحة الثكلى ليست كالمستأجرة!

ترك تعليق

التعليق