من رؤية مهندس سوفيتي إلى نظرة مستقبلية..."اقتصاد" تنسج سيناريو "سوريا جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني"


144كم مكعباً خسارة المياه الجوفية في حوض دجلة والفرات بين 2003 -2010

سوريا في المرتبة 13 بين الدول العربية من حيث نصيب الفرد من الأمطار

90% من المياه المستهلكة في البلاد للزراعة

40% توفير
متوقع في الموارد المائية في حال الاعتماد على شبكات الري الحديثة

موجات الجفاف ترافقت مع سوء إدارة للموارد المائية، وعدم التزام بقوانين حفر الآبار

أشكال من حسن الإدارة كفيل بزيادة الموارد المائية 50%

خصوبة مناطق البادية القريبة من المناطق الزراعية والحضرية في الجزيرة السورية
كان


البدء..برواية

يروي مهندس زراعي مسنّ لـ"اقتصاد" قصّة قديمة عن حوار دار بينه وبين أحد المهندسين السوفييت الذين كانوا يعملون في سوريا في سياق التعاون الاقتصادي والفني بين الاتحاد السوفيتي السابق وسوريا، والذي تصاعد بوتائر عالية منذ منتصف ستينات القرن الماضي ليصل ذروته في مطلع الثمانينات.

القصة مفادها رؤية اقتصادية لمهندس زراعي سوفيتي، قال لنظيره السوري يومها إن سوريا يجب أن تصبح جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني، وأن الجزيرة السورية زاخرة بالخيرات، ويمكن عبر اتفاق إقليمي استثماري مع تركيا أن تقبل الأخيرة حفر مئات الآبار الارتوازية على حدودها الطويلة مع منطقة الجزيرة السورية حيث تساهم التضاريس الجغرافية في تخزين كميات هائلة من المياه في منطقة الحدود بين البلدين، حسب المهندس السوفيتي.
ورأى الأخير أن مشروعاً كهذا يمكن أن يؤمّن بحوراً من الماء يمكن استغلالها في تحويل الجزيرة السورية إلى جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني، وهو ما يمكن تعميمه على كامل الأراضي السورية، بحكم المخزون المائي الجوفي الكبير الموجود في البادية السورية، حسب تخمينات الفرق الفنية السوفيتية التي كانت حينها تعمل على بناء مشاريع ضخمة للري وتوليد الطاقة في سوريا.

وفي السياق نفسه، يروي المهندس الزراعي السوري لـ"اقتصاد" إن صديقه السوفيتي قال له يومها إن على الحكومة السورية وقف زحف العمران في سهل دمشق، وحينها كانت الأبنية الجديدة لم تتجاوز بعد منطقة الميسات المعروفة في العاصمة، في مرحلة الستينات. المهندس السوفيتي قال إن على السوريين الاهتمام بالمناطق السهلية الغنية بالمياه والتربة الخصبة وتخصيصها للزراعة والاستثمار الزراعي والحيواني والصناعات الغذائية، والالتفات إلى البناء في المناطق الجرداء بدلاً من التمدد العمراني على حساب الأراضي الخصبة والغنية بالمياه، والتي هي ليست مواقع مناسبة للعمران هندسياً.
واقترح المهندس السوفيتي يومها على صديقه السوري أن تشق الحكومة السورية نفقاً في قلب قاسيون وأن تنقل الامتداد العمراني إلى صحراء (الدريج) القاحلة خلف الجبل المطل على دمشق العاصمة.

بطبيعة الحال، لا تستطيع "اقتصاد" الجزم بصحة تلك الرواية، فهي رواية لمهندس زراعي سوري مسنّ، لا تستند إلى أية وثائق محفوظة، وهي لا تعدو آراء عرضها عليه زميل سوفيتي كان يعمل معه في أيامٍ كانت العلاقة الاقتصادية والتقنية السورية –السوفيتية في أوجها.

وبطبيعة الحال أيضاً، وبغضّ النظر عن مدى دقّة قراءات المهندس السوفيتي المُشار إليه، فإن أياً من اقتراحاته لم تجد طريقها للتنفيذ، لكن"اقتصاد" قرّرت الاستناد إلى هذه الرواية الشخصية في دراسة سيناريو تحول سوريا إلى جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني.

عقبة المياه...معطيات محبطة للوهلة الأولى

قد تكون العقبة الأولى في تحقيق سيناريو تحوّل سوريا إلى جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني، هي تلك المتعلّقة بالمياه المطلوبة لتحقيق سيناريو كهذا، في بلدٍ يعتقد الكثير من المختصين أنه يعاني شحّاً في المياه، وأن آفاق أمنه المائي ليست مبشّرة بالخير.
وقد يقول لنا الخبراء المختصين في مجالات المياه والزراعة إن كلام المهندس السوفيتي في قصتنا هذه، ربما كان صحيحاً في منتصف الستينات، أما اليوم، ففي دراسة نُشرت في منتصف شباط/فبراير الفائت، استخدمت فيها بيانات من وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا)، كُشف فيها أن 144 كيلومتراً مكعباً من المياه وخلال سبع سنوات فقط، في الفترة بين 2003 -2010، فقدتها خزانات المياه الجوفية في المنطقة التي تضم أجزاءً من جنوب تركيا مع سوريا والعراق و أجزاء من غرب إيران وهي المنطقة التي يمر فيها نهرا دجلة والفرات. هذه الكمية من المياه تعادل حجم البحر الميت تقريباً. و ذكرت الدراسة التي استخدمت فيها تحليلات الصور الفضائية، لصعوبة الدراسة الميدانية في ظل الأوضاع غير الآمنة في المنطقة، أن الفقد حدث بشكل كبير بعد موجة الجفاف التي ضربت المنطقة سنة 2007، و أن 60 % منه كان نتيجة السحب الكبير من مخزون المياه الجوفية.

ومنذ عام 2006، ضربت ثلاثة مواسم متتابعة من الجفاف المناطق الشمالية الشرقية في الحسكة، والرقة، ودير الزور في أسوأ موجة جفاف تشهدها سوريا على مدى السنوات الـ 40 الماضية.
هذه الحقائق تتفق مع عشرات الدراسات والتحليلات التي تشير إلى فقدان كبير في مخزون المياه الجوفية في سوريا في السنوات العشر الفائتة، ذلك أن موجات الجفاف التي ضربت البلاد خلال العقد المنصرم، ترافقت مع سوء إدارة للموارد المائية، وعدم التزام بالقوانين بخصوص حفر الآبار في مختلف المناطق السورية الأمر الذي أفلت هذه القضية من عقالها، وكان نتاجها استنزافاً غير مسبوق لمخزون البلاد من المياه الجوفية.
ما سبق يوصلنا إلى خلاصة مفادها صعوبة تحقيق هذا الحلم، "سوريا جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني"، ذلك أن الماء هو أبرز احتياج يتطلبه المشروع، قبل حتى مجرد التفكير فيه.....فهل نتوقف عند هذه الخلاصة؟

حسن إدارة الموارد المائية...كفيل بتغيير المشهد

إن دققنا أكثر في أسباب الجفاف وتراجع الموارد المائية في سوريا، سنجد مصدرين رئيسيين لهذه المشكلة: الأول مرتبط بالتغير المناخي العالمي، والثاني مرتبط بأنظمة الري القديمة التي لا تتمتع بالكفاءة المطلوبة وسوء إدارة الدولة للموارد المائية.
بعيداً عن ذلك، لا يبدو أن سوريا تعد بلداً فقيراً بالموارد المائية مقارنة بباقي بلدان الشرق الأوسط، فوفقاً لتقرير التنمية البشرية العربية لعام 2009 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، جاءت سوريا في المرتبة 13 من بين 20 دولة عربية من حيث نصيب الفرد من الأمطار. كما أن نصيب الفرد السنوي من استهلاك المياه هو 300 متر مكعب، مما يجعلها تحتل المرتبة التاسعة في قائمة مؤلفة من 18 دولة عربية.
وتستهلك الزراعة نحو 90 بالمائة من المياه المستهلكة في البلاد، وفقاً للحكومة وللقطاع الخاص. وتشجع السياسات الزراعية المحاصيل التي تستهلك الكثير من المياه مثل زراعة القمح والقطن بالإضافة إلى طرق الري غير الفعالة، ما يعني هدر كميات كبيرة من المياه. والأخطر من ذلك أن "الري بطريقة الإغراق، يستخدم مياه أكثر بنسبة 30 إلى 40 بالمائة مقارنة بطريقة الري الحديث بالتنقيط".

خلاصة المعطيات الأخيرة أن الانتقال إلى الاعتماد على شبكات الري الحديثة واعتماد التقنيات المتقدمة في هذا المجال وحده كفيل برفع نسبة الموارد المائية لسوريا بنسبة تقارب 40%، فإذا أضفنا إلى ذلك حصول تنسيق مع الجارة تركيا، عبر اتفاقات استثمارية تغري الأتراك بأن يزيدوا من نسب المياه المتدفقة عبر الأنهار المشتركة إلى سوريا، وكذلك نقل الزراعات التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه إلى مناطق تحتوي مصادر مياه أغزر، كنقل زراعة القمح والقطن إلى سهل الغاب الذي يعد الأغنى بالمياه الجوفية في سوريا، وتخصيص الجزيرة السورية بزراعات أقل تطلباً للمياه.

أشكال من حسن إدارة الموارد المائية من هذا القبيل الذي أوردناه آنفاً كفيل بزيادة الموارد المائية في سوريا ربما بنسب تتجاوز بكثير 50%، وترفع من قدرات أية حكومة سورية مستقبلية على إدارة مشروع استثماري عملاق لتحويل سوريا إلى جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني.

البادية السورية...آراء لم تحظَ بالاهتمام الكافي

لننتقل إلى المشهد في البادية السورية، والتي هي متنوعة في تضاريسها، ويعتقد عدد من الخبراء أنها غنية بالمياه الجوفية لكن في أعماق كبيرة تتطلب آليات استخراج متطورة، إلا أنه لا دراسات أكيدة تثبت ذلك، في مقابل العديد من المؤشرات التي ترجّح أن مياه البادية لا تكفي لتلبية حاجات الاستثمار الرئيسي فيها في مجال تربية الثروة الحيوانية.
بعض الآراء التي لم تحظَ بما يكفي من الاهتمام، وإن كانت لا تستند إلى دراسات معمّقة، تشير إلى خصوبة مناطق البادية القريبة من المناطق الزراعية والحضرية في الجزيرة السورية وقرب تدمر، وقد أكدت تجارب استصلاح عديدة للأراضي ذلك، وأن مدّ أقنية مغطاة للمياه واستخدام آليات الري بالتنقيط قد يساعد على استصلاح مساحات شاسعة من تلك الأراضي في زراعة محاصيل تناسب البيئة هناك من أبرزها النخيل، إلى جانب تعزيز تربية الثروة الحيوانية هناك.

مشروع يردّ إلينا رأسمالنا المائي مع الأرباح

إذاً، لا يبدو أن عائق المياه قادر على تقويض حلم "سوريا جنّة للاستثمار الزراعي والحيواني"، بل على العكس، ربما أن القليل من الإرادة والتخطيط وحسن الإدارة وضبط الفساد، قد يسهم في إعادة إحياء مساحات شاسعة من الأرض السورية التي دخلت في سنوات قليلة نطاق المناطق القاحلة، والأهم من ذلك أن نذكر الحقيقة العلمية التي تؤكد أن تزايد المساحة الخضراء يزيد من نسبة الهطول المطري، الأمر الذي يعني أن مشروعاً مهما كهذا يتطلب جهوداً جبّارة في تأمين المياه، فإنه سرعان ما سيُرجع إلينا رأسمالنا المائي مع الأرباح (في كميات الأمطار).

أما العقبة التالية أمام هكذا مشروع، وهي المتعلقة بوجهة النظر التقليدية التي تقول بأن الاستثمار الزراعي غير محبّذ لأسباب عديدة، من أبرزها ارتفاع كلفته، وبطء استرداد رأس المال وتحقيق الأرباح، والأهم الارتباط بالعوامل المناخية والبيئية....فنتركه للمادة التالية من هذه السلسلة.

يتبع في حلقة ثانية...

1. المصدر مادة نشرها موقع منظمة المجتمع العلمي العربي في تاريخ 20/3/2013 بعنوان "رفقاً..بمخزون المياه الجوفية"
2. موقع برنامج الأغذية العالمي "برنامج مكافحة الجوع في العالم"
3. تقرير بعنوان "سنوات الجفاف...حول آثار الجفاف في الجزيرة السورية...بقلم مسعود علي"
4. مادة بعنوان "لماذا تعاني البلاد من نقص المياه بتاريخ 28/03/2010 منشورة في شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، الخدمة الإخبارية التابعة لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية
.

ترك تعليق

التعليق