كيف يُغازل النظام الحلفاء والخصوم بالقيمة الاقتصادية للأرض السورية؟ (2-2)

 الإعلام السوري انتهج التعتيم على ثروات البلد من الغاز تحديداً مع بدايات الثورة

 النظام يُغازل الغرب.. ما أزال أتمتّع بجدوى اقتصادية إن دعمتني ضد الثائرين

النظام يُغازل روسيا .. أستطيع تحقيق استراتيجيتك بالسيطرة على موارد الطاقة الجديدة الموجهة إلى أوروبا

 النظام يُغازل إيران والعراق..سوريا ممرّكما إلى رحابة المتوسط للوصول إلى إيرادات أوروبا من الغاز.

  جميعنا يذكر في بدايات الأزمة تصريحات وليد المعلم، وزير خارجية النظام، الذي أكّد أن سوريا ليست ليبيا، وأنه لن يكون هناك تدخلاً عسكرياً أجنبياً في سوريا على غرار ما حدث في ليبيا، لأن الأخيرة تحتوي على كميات هائلة من النفط تُغري الدول الكبرى بالتدخل، في حين أن سوريا لا تملك هكذا ثروات مما يعني أنها لن تتعرض لتدخل عسكري أجنبي، لأن الدول الغربية لن تجد جدوى اقتصادية للتدخل المباشر فيها.ِ

 هذه التصريحات شكّلت العمود الفقري لاستراتيجيات إعلام النظام الذي كان منظّروه يواظبون ليلاً نهاراً على نفي القيمة الاقتصادية لسوريا، وبالتالي نفي احتمالات التدخل العسكري الأجنبي، مطمئنين بذلك أنصار النظام بأن مصيره لن يكون كمصير نظيره الليبي، وأن المعارضة لن تستطيع أن تستجلب التدخل العسكري الأجنبي، لأن الأخير يتطلب جدوى اقتصادية تُغريه ليتحقّق.
 إذاً كانت خلاصة بروباغندا النظام لا ثروات باطنية مغريّة في سوريا لذلك لن يتدخّل الغرب...لذا لن يكون مصيرنا كمصير ليبيا.

 بقي الأمر كذلك حتى ربيع العام الماضي، حينما بدأ بعض منظّري النظام يقدّمون قراءة جديدة مفاجئة مقارنة بالقراءة السابقة...."لا...فشاطئ سوريا الغربي يحوي كميات هائلة من الغاز....كما أنها ممرّ لوجستي للنفط والغاز في المنطقة....".

 انقلبت القراءة...وكان أبرز المنظرين لذلك الانقلاب، عماد فوزي شعيبي، رئيس ما يُسمى مركز المعطيات والدراسات الإستراتيجية بدمشق.

 وتوالت مقالات الرجل، ومن ثم لقاءاته التلفزيونية التي وصلت ذروتها مؤخراً، للتأكيد على إقرار النظام بهذه القراءة الجديدة، التي باتت "مسبحةً" على لسان معظم الإعلاميين في الإعلام الرسمي والمحسوب عليه.
 وهنا يُطرح السؤالان التاليان: هل اكُتشف الغاز في شرق المتوسط مؤخراً؟....وهل طُرحت الأهمية اللوجستية للأرض السورية، كممرّ رئيسي لأنابيب النفط والغاز إلى أوروبا، بعد الثورة؟
 
لنبدأ بالسؤال الأول:

تعود أولى اكتشافات الغاز في ساحل غزة جنوب فلسطين إلى العام 1999، لكن اكتشاف طبقات كبيرة من الغاز في منطقة شرق المتوسط إجمالاً حدث في نهايات العقد المنصرم تحديداً، وقد أطلق ذلك موجةً من أنشطة التنقيب منذ العام 2009، حتى أن صحيفة "فايننشال تايمز" كتبت أن الاكتشافات "يُحتمل أن تكون واسعة النطاق إلى درجة بدء إعادة رسم الخريطة الاقتصادية في المنطقة".
 في مارس / آذار 2011 صدر إعلان عن هيئة المسح الجيولوجي الأميركية تضمن أول تقييم للمنطقة على أساس احتوائها على 1.7 مليار برميل من النفط و122 تريليون قدم مكعب من الغاز.
 إذاً...فأهمية شرق المتوسط، ومنه ساحل سوريا، كمصدّر للغاز، يعود إلى ما قبل أحداث الثورة السورية، أو في أقصى حد، مع بداياتها.
 
ويعتقد خبراء أن الإعلام السوري انتهج حالة من التعتيم على هذه الناحية تحديداً مع بدايات الثورة.
 
لننتقل إلى السؤال الثاني:
 
برزت أهمية سوريا كممرّ لوجستي هام لأنابيب النفط والغاز منذ نهايات عهد صدام حسين في العراق، حينما أعاد الرجل إحياء جانب من خط نفط كركوك –بانياس قبل أن يقطعه الأمريكيون بعد الغزو مباشرة عام 2003.

 أثناء ذلك أيضاً برز مشروع خط الغاز العربي لتصدير الغاز الطبيعي المصري لدول المشرق العربي ومن ثم تركيا وصولاً إلى أوروبا، وقد بُدئ بالمشروع عام 2003، وقد تم الاتفاق بين مصر والأردن وسوريا ولبنان وتركيا ورومانيا بتوصيل خط الغاز عبر أراضي هذه الدول ومن ثم وصله بخط غاز نابوكو ليصل إلى القارة الأوروبية.

 وفي عام 2004 اتفقت مصر والأردن ولبنان وسوريا مع العراق لتوصيل خط الغاز العربي مع العراق لتصدير الغاز العراقي لأوروبا أيضاً. وكان من المتوقع أن يتم الانتهاء من هذا المشروع عام 2010.
 وقد تضرر هذا المشروع كثيراً بعد الثورة المصرية إثر التفجيرات التي تلقتها خطوط الغاز الممتدة عبر سيناء، الأمر الذي أجّل المشروع في المدى القريب.

 خلاصة ما سبق، أن الأهمية اللوجستية للأراضي السورية كممر لخطوط الغاز والنفط ليست جديدة، وليست وليدة لحظة الثورة، أو ما قبلها مباشرة، بل هي قديمة، وكان النظام السوري منخرطاً في معظمها.
 إلى جانب ما سبق، كان خط الغاز العربي المذكور، الذي كان النظام السوري جزءاً منه، يضرّ بالمصالح الاستراتيجية الروسيّة، فهو يكسر احتكار روسيا لمعظم إمدادات أوروبا من الغاز، خاصة أنه موصول بخط غاز نابوكو الأمريكي، الذي كان يريد تحديداً إفقاد الروس ميزة احتكار معظم إمدادات أوروبا من الغاز، مما يُضعف من الوزن الاستراتيجي للغاز الروسي.


 ورغم الضرر الذي طال روسيا من هذا المشروع، انخرطت فيه سوريا، مما يعني أن النظام قبل الثورة لم يكن معنياً بمصالح دولية أو إقليمية، وكان منخرطاً في أية مشاريع تخدم مصالحه المالية والاقتصادية، حتى لو أدت إلى الإضرار بروسيا، وإفادة أمريكا أو أوروبا.
 كيف نفسّر تعامل النظام مع "ملف الغاز والنفط" في سوريا؟
 يتعامل النظام السوري اليوم مع هذا الملف من بُعدين: الأول بعد إعلامي، والثاني بعد اقتصادي –استراتيجي.
 
البعد الأول الإعلامي:

حيث يقدّم النظام هذا الملف على الشكل التالي: اكتشف الغرب وحلفاؤه الإقليميون القيمة الاقتصادية للأرض السورية، من حيث ثروات الغاز في الساحل، ومن حيث كونها ممراً لوجستياً مثالياً لأنابيب النفط والغاز إلى أوروبا، وأراد حرمان روسيا من احتكار معظم إمدادات الغاز إلى أوروبا، فكان ذلك أحد أسباب المؤامرة على النظام، لإسقاطه، وإحلال نظام بديل، يخدم الأجندات الغربية، في مختلف المجالات، وعلى رأسها، ملف الغاز والنفط.

 ويستغل النظام في الترويج لهذه القراءة، جهل الكثير من الناس بتاريخ مشاريع أنابيب النفط والغاز، خاصة مشروع الغاز العربي، الذي هو فعلياً جزء من مشروع خط نابوكو الأمريكي، الرامي إلى إمداد أوروبا بغاز مصر وقطر والعراق عبر سوريا وتركيا، للإضرار بروسيا، وأن النظام السوري كان جزءاً من هذا المشروع، مما يزيل أي مبرر لاستهدافه غربياً من هذه الزاوية.
 
والأمر الملفت، هو ما أشار إليه خبراء، أن الإعلام السوري في بدايات الثورة وحتى مضي أكثر من سنة من اندلاعها عتّم إعلامياً على قضية "النفط والغاز" خاصة ما يتعلق باحتياطيات المتوسط من الغاز، ولم يتكلم عنها، مركزاً على بروباغندا خلوّ سوريا من ثروات تجذب التدخل الأجنبي المباشر، كما سبق وأشرنا.
 
وكان، على ما يبدو، النموذج الليبي، يشكّل رعباً بالنسبة لرموز النظام، فقرروا تجنب أية إشارة إلى ثروات سوريا، لا من بعيد ولا من قريب.
 
لكن فجأةً، انقلبت استراتيجيات الإعلام السوري، ليقدّم سوريا على أنها أرض زاحرة بالثروات وبالأهمية الاقتصادية، ويقدّم المشهد الراهن على أنه صراع دولي على أرض سوريا، أحد أسبابه الرئيسية هي تلك الأهمية الاقتصادية للأرض السورية.
 
يستهدف النظام من هذه البروباغندا دون شك تعزيز قناعات ومعنويات مناصريه، لكنه على ما يبدو أيضاً يستهدف أمراً آخر.

 البعد الاقتصادي – الاستراتيجي:

 لا يتوقف أداء النظام حيال "ملف النفط والغاز" على البعد الإعلامي، فقد اتخذ النظام خطوات جديّة لتعزيز أهمية سوريا الاقتصادية من هذه الناحية، بدأ ذلك مع توقيع كل من إيران والعراق وسوريا اتفاقية في يوليو/تموز 2011 لنقل الغاز الطبيعى الإيراني من حقل بارس الإيراني الجنوبي للغاز إلى أوروبا، يبلغ طول الخط المزمع إنشاؤه 6500 كم، سيتم استثمار 10 مليارات دولار أمريكي فيه.
 لكن هكذا مشاريع تجمّدت على أرض الواقع قرابة السنتين، بسبب التطورات الأمنية التي تهدد نظام الأسد.

 وفي مطلع الشهر الجاري، فؤجئ المراقبون بحكومة الأسد تعلن عن قيامها باتصالات لتأمين تمويل خط الغاز "بغداد - الحدود السورية"، سعياً إلى تنفيذ مشروع خط الغاز إيران- العراق- سوريا - الاتحاد الأوروبي داخل خطوط الأراضي السورية.
 صحيفة الوطن السورية الموالية للنظام أشارت إلى أنه من المقرر أن تقوم الحكومة بالتوازي بتنفيذ مشروع خط الغاز ضمن الأراضي السورية وإمكانية تغطية جزء أو كل تكلفة هذا الخط من القرض الإيراني المقترح إعطاؤه إلى حكومة النظام السوري .

 يُطرح هنا تساؤل: ما الذي أعاد إحياء هكذا مشاريع اليوم؟...وهل حقاً ستقبل إيران تمويل خط الغاز المشار إليه من بغداد عبر سوريا إلى المتوسط باتجاه الاتحاد الأوروبي، في ظل الضبابية التي تلف مصير النظام السوري، وفي ظل العقوبات الأوروبية المنفذة تجاه إيران؟
 لا بد أن لطرح هذا المشروع مرة أخرى من جانب حكومة النظام، أهدافاً إعلامية – نفسية، متعلّقة بتعزيز معنويات أنصار النظام، وتعزيز قناعاتهم بأن القضية متعلقة بالصراع الدولي – الإقليمي على إعادة رسم خارطة توزيع الطاقة في المنطقة.

 لكن في المقابل، لا بد أن لإعادة إحياء هكذا مشاريع، على الأقل إعلامياً، أبعاداً سياسيةً أيضاً، متعلقة بإرسال رسائل لجميع الأطراف، خصوماً وحلفاء، إقليميين ودوليين، يحاول فيها النظام أن يقول للجميع، إنني موجود وقادر على خدمة الطرف الذي يدعمني عبر منحه فرصة استغلال القيمة الاقتصادية للأرض السورية، كما أنني موجود لعرقلة هكذا مشاريع، لكل من يريد أن يزيلنا من طريقه.
 
النظام يُغازل روسيا، ليقول لها أنني أستطيع تحقيق أهدافك الاستراتيجية بالسيطرة على موارد الطاقة الجديدة الموجهة إلى أوروبا، لتبقين الممسكة بزمام إيرادات الغاز إلى القارة العجوز.
 يُغازل إيران والعراق، بأنني ممرّكما إلى رحابة المتوسط، لاقتناص مساحة لكما في إيرادات أوروبا من الغاز.


 ويُغازل الغرب، بأنني ما أزال أتمتّع بجدوى اقتصادية، إن دعمتني ضد الثائرين عليّ، على مبدأ "من تعرفه أفضل ممن تتعرف عليه"، فأنا أفضل من الفوضى أو الإسلاميين أو من معارضة مشتتة لا يمكن الركون إليها كثيراً. وكما سايرتك يوماً بمشروع خط الغاز العربي، أستطيع أن أسايرك اليوم في المشاريع التي تناسب مصالحك بالمنطقة، وفي سوريا منها تحديداً.
 

كيف يُغازل النظام الحلفاء والخصوم بالقيمة الاقتصادية للأرض السورية؟ (1-2)
  122 تريليون قدم مكعب من الغاز شرق المتوسط   موقع سوريا الاستراتيجي يساهم في تحديد مستقبل المنطقة...

 

ترك تعليق

التعليق