سيناريوهات تقسيم سوريا بعد "يبرود والحصن"، و"مَقتَلُ" الاقتصاد فيها (2-3)

"الدويلة العلوية" المُتخيلة ستتضمن أغلبية "علوية" تتجاوز النصف، يُضاف إليها قرابة الثُمن من المسيحيين والاسماعيليين، وحوالي الثُلث من السُنة.

شمال لبنان، إلى جانب العمق السوري (السُني)، سيشكّلان مصدر تهديد، وربما استنزاف، طويل الأمد، لتلك "الدويلة".

مع انفصال "الدويلة العلوية" عن سوريا ستفتقد بدايةً إلى مصادر الطاقة.

"الدويلة العلوية" المُتخيلة ستفقد القدرة على استثمار المقومات الطبيعية والجمالية الموجودة في الساحل السوري، في مجال السياحة.

ستضطر "الدويلة العلوية" لتخصيص معظم مواردها لتمويل الحرب مع جيرانها.

سيخسر أكثر من مليون علوي بيوتهم وأملاكهم في الداخل السوري.

كانت الخلاصة الأبرز التي خرجنا بها في الجزء الأول من سلسلتنا، أن تطورين حصلا على صعيد سيناريوهات "الدويلة العلوية" المُتخيلة، الأول يتمثّل في السيطرة على يبرود، في مسعى للسيطرة على كامل بلدات القلمون الاستراتيجية، وبالتالي تأمين الخلفية اللوجستية لبقاء الأسد في دمشق، أو في أسوأ الأحوال، تأمين الانسحاب الآمن لقواته من العاصمة باتجاه حمص والساحل، وذلك شريطة عدم تعرض تلك القوات للاستنزاف في حرب "عصابات" تعتمد مبدأ الكرّ والفرّ في القلمون. 

أما التطور الثاني فيتعلق بتأمين نظام الأسد للطريق البري الوحيد الواصل بين الساحل (طرطوس) وبين الداخل (حمص)، عبر السيطرة على قلعة الحصن مؤخراً، وبالتالي ضمان الاستقرار الاستراتيجي (الجغرافي –العسكري) الداخلي للدويلة المُحتملة.

عدا هذين التطورين، لا يبدو أن جديداً قد طرأ على التحديات التي قد تواجه "الدويلة العلوية" المُحتملة، خاصة على صعيد الديمغرافيا والاقتصاد، ناهيك عن التحديات الاستراتيجية الخارجية المُتمثلة بالمحيط المناوئ لها، والذي قد يحمل بذور استنزاف مستقبلي لقدرات تلك "الدويلة"، الاقتصادية والبشرية، في صراع وجود شرس، خاصة إذا بقي نشاط الحركات الجهادية قائماً في العمق السوري.

سيناريو تهجير السُنة يحمل بذور استنزاف "الدويلة العلوية"

فعلى الصعيد الديمغرافي، ورغم أن "الدويلة العلوية" المُتخيلة ستتضمن أغلبية "علوية" تتجاوز النصف، يُضاف إليها قرابة الثُمن من المسيحيين والاسماعيليين. إلا أنها ستتضمن في الوقت ذاته نسبة من المسلمين السُنة تتجاوز الثُلث، وتتركز هذه النسبة بالذات في مناطق واسعة واستراتيجية على طول خط الساحل، وفي السهول الداخلية الخصبة، وذلك حسب دراسة مصعب الرشيد الحراكي، المُشار إليها في الجزء الأول.

ويبدو أن نظام الأسد كان يعي هذه الحقيقة، لذا عمل بدأبٍ على تهجير السُنة الموجودين في مناطق "الدويلة العلوية" المُتخيلة. فمدينة حمص وحدها فقدت أكثر من 80% من سكانها السُنة، حسب تقديرات مُتقاطعة. ناهيك عن تهجير معظم سكان البلدات الموجودة في ريف حمص الغربي، إلى جانب المجازر التي استهدفت القرى السُنية المجاورة لنظيرتها العلوية في أرياف حمص وحماه واللاذقية، كمجازر الحولة والقبير والحفة والتريمسة. وهكذا عمل نظام الأسد على تهجير السُنة من مناطق غرب نهر العاصي، حيث الغالبية العلوية، باتجاه شرق نهر العاصي، الذي يبدو أنه خط أولي لترسيم حدود دويلته، حال إنشائها.

لكن سيناريو تهجير السُنة هذا، والذي عُمل على جانب منه بالفعل خلال السنتين الأخيرتين، لكنه لم يُستكمل بعد، ستكون نتائجه تعزيز العداء للـ "الدويلة العلوية" المُتخيلة مع العمق السوري بغالبيته السُنية. ذلك أن معظم النازحين من المهجّرين سيلجؤون إلى ذلك العمق، إلى جانب اللجوء إلى مناطق شمال لبنان المُلتهبة هي الأخرى بالعداء للأسد، وبالحساسية الطائفية تجاه حزب الله الشيعي.

النتيحة أن شمال لبنان، إلى جانب العمق السوري (السُني)، سيشكّلان مصدر تهديد، وربما استنزاف، طويل الأمد، لتلك "الدويلة". دون أن ننسى أن إعلان نشوء هذه الدويلة على حطام مناطق "سُنية"، دون تفاهم إقليمي -دولي، سيترك "حنفية" تمويل المجاهدين والراغبين بمحاربة الأسد وحلفائه من الشيعة في لبنان، مفتوحة بقوة، خاصة من دول الخليج، رسمياً، وشعبياً، مما سيعزّز احتمال أن تتحول خطوط التماس بين هذه الدويلة وعمقها السوري إلى نقاط اشتباك واستنزاف دائم للدويلة المُحتملة، مع الكثير من الراغبين بالثأر وباستعادة أراضيهم ومناطقهم من المُهجّرين السُنة والمُتعاطفين معهم.

"دويلة" في بحر من الأعداء

نُضيف إلى ما سبق أن تركيا، الجار الشمالي لهذه الدويلة المُحتملة، ستكون مصدر عداء، وربما دعم للعرب السُنة ضدها، كما يحصل اليوم تماماً، بل ومن المُحتمل أن تزيد وتيرة هذا الدعم، ذلك أن نشوء دويلة علوية في سوريا، يهدد استقرار الداخل التركي الذي يضم ملايين العلويين الأتراك الذين يحمل بعضهم نزعات انفصالية ميّالة لُحلم "دويلة علوية كبرى" تضم مناطق من تركيا، منها "لواء اسكندرون" الذي يضم غالبية علوية كبيرة.

إذاً، ستنشأ هذه الدويلة في بحر من الأعداء، سيعملون على استنزافها. وإذا واظب الغرب على اعتماده استراتيجية استنزاف الطرفين، السُني والشيعي في المنطقة، كما يحصل الآن، فإن ذلك يعني فتح باب تمويل ودعم السُنة السوريين لمتابعة القتال مع نظرائهم من العلويين على خطوط التماس في "الدويلة" المُتخيلة.

خسارة مصادر الطاقة، وتجارة الترانزيت، وقطاع السياحة

على الصعيد الاقتصادي، لم يتغير شيء أيضاً، فما تزال هذه الدويلة تفتقد لمقومات اقتصادية ملائمة لتحقيق تنمية حقيقية.

فمع انفصال هذه الدويلة عن سوريا ستفتقد بدايةً إلى مصادر الطاقة، فهي لا تملك ثروات نفطية مُعتبرة، ويعتمد الساحل السوري حالياً على النفط الآتي إليه من مناطق شرق وشمال سوريا، عبر أنابيب تمر بوسط سوريا، أي أن النفط يأتيه من مناطق خاضعة للمعارضة أو للأكراد، وعبر أنابيب تمر في مناطق خاضعة للمعارضة، مما يعني أن قطع إمدادات هذا النفط أمر وارد جداً حال استقلال هذه الدويلة.

أما بالنسبة لما يُقال عن احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي في الساحل السوري، في حال تأكد وجوده، فإنه يحتاج إلى خمس سنين على الأقل للبدء باستثماره، مما يخلق فجوة زمنية تفتقد خلالها الدويلة المُتخيلة لأية موارد من الطاقة.

بالنسبة لسيطرة الدويلة المُحتملة على موانئ الساحل، فإن فائدتها الاقتصادية الأبرز ستكون بوجود تجارة ترانزيت تُتيح لهذه الدويلة استثمار موانئها. 

لكن العداء المُرتقب بين هذه الدويلة وبين العمق السوري، والجار التركي، والشمال اللبناني، سيقضي على أي أمل بنشوء تجارة ترانزيت واعدة بين موانئ الساحل من جهة، وبين الداخل السوري من جهة ثانية.

يُضاف إلى ما سبق أن "الدويلة العلوية" المُتخيلة ستفقد القدرة على استثمار المقومات الطبيعية والجمالية الموجودة في الساحل السوري، في مجال السياحة. ذلك أن الوافدين للسياحة في الساحل السوري كانوا بصورة أساسية من مصدرين: الداخل السوري (بغالبيته السُنية)، والخليج.

وهكذا فإن العداء الذي سيسود مشاعر السوريين المنقسمين بين الداخل والساحل، إلى جانب مشاعر العداء المُرجحة في الخليج لهذه الدويلة، سيقضي على المصدرين الرئيسيين للسياح الوافدين إليها، مما سيجعلها تخسر قطاعاً رئيسياً مُحتملاً للدخل لديها، وهو السياحة.

استنزاف الميزانية لصالح الحرب، وشكوك حول متانة التمويل الإيراني على المدى البعيد، ومع استمرار التوتر الأمني والعسكري المُحتمل بين هذه الدويلة وبين جارييها التركي، والسوري (السُني)، ستُستنزف خزينة "الدويلة" المُتخيلة، التي ستضطر لتخصيص معظم مواردها لتمويل الحرب مع جيرانها، لتبقى أسيرة التمويل الإيراني، الذي تدور شكوك عديدة حول مقدار قدرته على الاستمرار في مجابهة مع التمويل الخليجي للعمق السوري، خاصة في ظل أزمات إيران المالية، وتذمر مجتمعها من أوضاعه المعيشية، مقابل الملاءة المالية الكبيرة لدول الخليج وشعوبها. وهنا يجب أن ننتبه أن التمويل للمجاهدين في سوريا لا يعتمد فقط على الخليج الرسمي، بل يعتمد على التمويل غير الرسمي أيضاً، والذي يتصاعد كلما تفاقمت العوامل المؤججة لمشاعر العداء الطائفية في المنطقة. لذا لا يجب المراهنة على توقف التمويل الخليجي للعمق السوري (السُني) بقرار من الأنظمة هناك، ذلك أن التمويل الشعبي غير الرسمي يتمتع بمتانة عالية هو الآخر، وتصعُب سبل ضبطه، كما يعلم الضالعون في هذا المجال.

ضغط ديمغرافي مع عودة علويي الداخل

دون أن ننسى خسارة العلويين الكبيرة المُتأتية من انسحاب ما يقارب المليون علوي من الداخل السوري، تاركين بيوتهم وأملاكهم، باتجاه الساحل السوري، مما سيعزز الضغط الديمغرافي هناك، وسط محدودية الأرض الزراعية. فقد كان الساحل السوري، قبل الثورة، يعاني من انحسار رقعة المُلكية الزراعية بسبب كثرة الورثة وعدم وجود مساحات جديدة للاستثمار الزراعي. فما بالك إذا رجع مليون علوي إلى ضيعهم وبلداتهم.

إذاً، كخلاصة، يبدو أن الاقتصاد سيكون "مَقتَلُ" أي مشروع لانفصال العلويين عن الداخل السوري.

يتبع...

ترك تعليق

التعليق