"مشايخ الكارات" في حمص.. تاريخ يأبى النسيان


لا يزال الكثير ممن تقدم بهم السن يتذكرون جوانب من عوالم كارات المهن في مدينة حمص ومشايخها كما عايشوها يوم كانت هذه المدينة واسطة العقد بين مدن بلاد الشام وشرياناً حيوياً يرفدها بالحياة والنشاط الإجتماعي والاقتصادي والسياسي.

ولا شك أن استعادة هذه الجوانب أمر لا ينفصل عن استعادة تاريخ مدينة حمص الذي يأبى النسيان مهما حاول مزورو التاريخ التغيير من ديموغرافيتها أو تشويه هويتها الحضارية اقتصادياً واجتماعياً وعمرانياً، وخصوصاً أن هناك محاولات حثيثة من قبل نظام الأسد لتكريس الواقع الذي آلت إليه المدينة بعد تفريغ أهلها منها، وليس أدل على ذلك من تعمّده إحراق السجل العقاري الذي يضم كل الوثائق والمستندات العقارية التي تربط سكان حمص بمنازلهم وممتلكاتهم ومحالهم التجارية ومشاغلهم الحرفية.


كان رئيس الحرف في حمص في بدايات القرن الماضي يسمى شيخ مشايخ الحرف أو المصنف ومنه أسرة صنوفي في حمص.

 ويروى الباحث والمهتم بالتراث الشعبي "مصطفى الصوفي" في حديث لـ"اقتصاد" أن شيخ الحرفة في الماضي كان يتم اختياره من قبل المعلمين أنفسهم مع تزكية المفتي والقاضي ونقيب السادة الأشراف وبعض الأعيان بواسطة الانتخاب، ثم تُرفع اللوائح إلى الباب العالي بعد التزكية ليتم تعيينه وحصوله على الأمر السلطاني الصادر عن دار الخلافة العثمانية ويجب أن يكون موصوفاً بالعلم والأمانة والصدق والعفة.

 ويتابع الصوفي أن "شيخ الحرفة قد يكون من السادة الأشراف أو من العلماء وغالباً ما يكون من مشايخ الطرق الصوفية".


ولم يكن الجمع بين التجارة والتفقه في العلوم الدينية قائماً في حمص وحدها وإنما في العالم الإسلامي كله بدءاً منذ القرون الأولى، بل إن بعض العاملين في الميدانين من علماء حمص في فترات زمنية معينة تسلّم مناصب دينية كمنصب القضاء والوعظ والتدريس والآذان والإفتاء وهناك من التجار العلماء من جمع بين التصوف والتجارة على الرغم من التباين المبدئي بين روحي الفكر الديني والتجاري.

وبدوره أشار الباحث "غازي حسين الآغا" المهتم بدراسة الطرق الصوفية إلى أن "كل حرفة من الحرف الأساسية في المدينة وفي بلاد الشام عامة كانت مرتبطة بشيخ من شيوخ الطرق الصوفية في المدينة، فالطريقة السعدية كان شيخها ومرشدها شيخ حرفة الخوامة، وأعضاء هذه الحرفة هم تلاميذ له في الطريقة المذكورة، وكذلك شيخ الطريقة القادرية، وشيخ الطريقة الأحمدية كانا من شيوخ حرفة الدباغة، أما شيخ الطريقة الرفاعية في حي باب تدمر فقد كان شيخ حرفة النجارين (نجاري الصمود من أدوات الحراثة والدراسة التي اشتهرت بها مدينة حمص) والمرشد الكامل الشيخ سليم خلف النقشبندي وزان الحرير في المدينة– ومن هنا ارتبطت كنيته بلقب الوزان – ومن السادة العلماء الأجلاء-كما يقول محدثنا- الفقيه الشيخ محمد المحمود الأتاسي الذي كان شيخ حرفة العطارة في المدينة وخبير شرعي لأصحاب البساتين في حل مشاكلهم ( شيخ البساتنة ) وكذلك العلامة والصوفي الكبير الشيخ خضر بن الشيخ جمال الدين الجمالي الذي كان شيخ حرفة الحبالين في المدينة، وغيرهم كثير".
 

ولفت الآغا إلى المرتبة الأدنى من مشايخ الكارات في حمص وهم شيوخ الصنعة المعلمين ثم الصناع، ثم المبتدئين وهما تحت جناح المعلم ليتلقيا عنه قواعد هذه الصنعة وسرها وتقاليدها حتى يصبح كل منهما مهيئاً لأن يكون معلماً فيما بعد.

 وأوضح محدثنا أن "المتدرب يتم تنصيبه فيما بعد معلماً في الصنعة على يد شيخ الحرفة بموجب مراسم خاصة متبعة بعد شهادة المعلم وأرباب الصنعة بمهارته ومعرفته التامة في أمور هذه الصنعة مع عدم تغافلهم عن حسن أخلاقه وأمانته".

 ويكون يوم التنصيب يوماً حافلاً تبدأ مراسمه بتلاوة القرآن الكريم وقراءة الفاتحة ثلاث مرات، الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم والثانية لأرواح أصحاب هذه الصنعة الذين تفانوا في خدمتها وخدمة الناس والمسلمين والثالثة على نية الفتح وسعة الرزق والاستغناء عن الناس وتسهيل الأسباب في خدمة هذه الصنعة بما يرضي الله ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم يتلون المدائح النبوية، والاستغاثات والأهازيج ويقدم لهم ما طاب لهم من المآكل والمشارب والحلويات.
 

وكان في مدينة حمص كما في غيرها من مدن الشام يوماً خاصاً لكل شيخ من مشايخ الحرف يختاره الشيخ بنفسه في فصل الربيع أجمل فصول السنة، ويكون بعد خميس المشايخ، فيجتمع أصحاب الصنعة عند الشيخ ليخرجوا تحت راية شيخ الحرفة، وراية شيخ الحرفة كأعلام السادة الصوفية (السناجق) ويلبسون لباسهم التقليدي الخاص–عمامة– زنار يوضع على الأكتاف وآخر يوضع في الوسط بلون خاص بهم– ويقصدون ضفاف العاصي في نزهتهم هذه، ويبدو هذا اليوم وكأنه عيد خاص بهم، وفي ذهابهم وإيابهم تتعالى أصواتهم بالمدائح النبوية والقصائد الصوفية والمواليا والأهازيج الحماسية التي تُقال في الأعراس والمناسبات الأخرى مثلاً، ويقدم لهم شيخ الحرفة ما طاب لهم من الطعام والشراب والحلوى ويتبادلون بعض النوادر والطرائف ثم يعودون بعد غروب هذا اليوم يحملون الأضواء (الفنار وفيما بعد اللوكس) ويقوم بخدمة المعلمين الصناع والمبتدئون على حد سواء.


ترك تعليق

التعليق