لا يعطون أسرارهم لأحد.. "قطّارة العيون" يعودون إلى ريف حمص الشمالي


أفرزت الحرب بظروفها الصعبة العديد من المهن الشعبية التي أوشكت في السنوات الماضية أن تكون نسياً منسياً، ومنها مهنة "قطارة العيون" أو "الكحالين" الذين كان لهم مكانة خاصة في مجتمع أيام زمان، يقصدهم الناس فيضعون لهم القطرات ويستخرجون الأجسام الغريبة، ويعالجون الرمد والتراخوما.

وكانت هناك كثرة من النساء في مدينة حمص وريفها يهتممن باستخراج الأجسام الغريبة السطحية من القرنية والملتحمة في العيون الملتهبة وتحت الجفن بألسنتهن، ونزع الرموش المقلوبة والشعرات بالملقط، يفعلن ذلك مجاناً في بعض الأحيان، ويتقاضين مبلغاً من المال أحياناً أخرى.

 ومن مفارقات مهنة ( قطارة العيون) كما تسمى، أن القطورات لم تكن تُعطى للمريض لاستخدامها في المنزل كما يفعل الأطباء عادة مهما كانت الظروف ويعتبرون هذا من أسرار المهنة، وهذه القطورات-كما يقول الدكتور سمير أنطاكي- لـ"اقتصاد" عبارة عن مركبات مضادة للإحتقان وملطفة أو مضادة للالتهابات أو مطهرة في أحسن الأحوال، ولها ألوان عديدة منها الزرقاء والحمراء مجهولة التركيب وإن كانت تشبه القطورات التي كان الصيادلة يركبَّونها في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي قبل انتشار القطورات الجاهزة في الصيدليات.

وعادت هذه المهنة الشعبية إلى الواجهة من جديد في ريف حمص الشمالي لحاجة الناس لها جرّاء الإصابات الكثيرة التي يخلّفها القصف لمن ينجو من الموت، والأذى الذي يلحق بعيونهم سواء من الشظايا أو الغبار أو الأتربة أو جرّاء المياه الملوثة أحياناً، ومع افتقار الريف المحاصر لأطباء عيون أصبح الأطباء الشعبيون هم المقصد الوحيد لهؤلاء المصابين.

وكانت آخر طبيبة عيون في ريف حمص الشمالي قد غادرت إلى تركيا في تشرين الثاني الماضي، ما جعل المصابين بشظايا في أعينهم ومرضى العيون أمام خطر فقدان البصر، في ظل عدم وجود أخصائي آخر في قرى وبلدات الريف الشمالي التي تعاني منذ سنوات من حصار مطبق طال كل مستلزمات الحياة الإنسانية.

في حوش عربي، في إحدى بلدات ريف حمص الشمالي، تجلس "أم مصطفى"، وهي سيدة مسنة يقصدها كل شاك من دخول جسم غريب إلى عينه، أمام إناء كبير تغسل فيه الثياب، وقد جيء إليها بطفل يذرف الدمع على خده، ويبدو على وجهه الألم الشديد لوجود جسم غريب في عينه، وبكل خفة مسحت يديها بثيابها ثم جسّت جفن الصغير بأصابعها، فقلبته وأخذت تلحسه بلسانها بضربات سريعة ورشيقة فاستخرجت على رأس لسانها حصى صغيرة، وارتاح الطفل واستنار وجهه وعادت إليه الابتسامة.

 وترفض أم مصطفى تقاضي المال مقابل هذا العمل وإنما عملها لوجه الله –كما تقول-لـ"اقتصاد" مضيفة أنها تعلمت هذه "المهنة" الشعبية من والدتها وتقدم هذه الخدمة لأهل القرية دون مقابل.

 وعادت المرأة السبعينية إلى وعاء غسيلها بعد أن اعتذرت عن متابعة الحوار.

وتمكن "اقتصاد" من إحصاء العديد من تلك السيدات اللواتي يقمن بهذا العمل خدمة للقرية وأهاليها، والتقى بعض النسوة اللواتي يُلقّبن من قبل العامة بـ (القشاشات) ولكل منهن اختصاصها، فمنهن من يستخرجن الطين، وأخريات من يلتقطن الحصى أو القش ومنهن للحجارة الصغيرة ومنهن لقطع السلك المعدني (السلك المرن)، وتلك لكل الحالات.

تختلف العلاجات الشعبية لأمراض العيون من حالة إلى أخرى، ففي الحول لا زال الاعتقاد السائد أن الطفل قد أصيب بالعين عندما يصاب بهذا المرض وكثير من الأطفال يجلبهم أهاليهم إلى الشيخ ليقرأ لهم، أو يضع لهم حجاباً أوخرزة زرقاء – منعاً للحسد، ولطرد الأرواح الشريرة وعودة العين إلى وضعها الطبيعي، و"لا تزال طريقة(قدح الساد) متبعة في مناطق كثيرة من سوريا"-كما يقول د. انطاكي- مضيفاً أن بعض الناس يستعملون مزيجاً من سكر النبات المطحون ومرارة القنفذ المطحونة لمنع تطور الساد.

 أما حالة "البردة" المنتشرة في الأرياف كثيراً، فهناك وصفات بلدية كثيرة لعلاجها، منها وضع فولة مسلوقة على الجفن لمدة عشرة دقائق ثلاث مرات في اليوم، وبعد ذلك يوضع على الجفن مزيج من الطحين وبشرة صابون الحور والسكر، والبعض يفركون الجلد فوق البردة بسن من الثوم (وربما كان الفرك من طرف الملتحمة) وهناك من يعتقد بأن فرك البردة بخاتم من الذهب القديم يساعد على الشفاء.

ولعلاج الشعرة في العين طرقاً عدة ومنها "العملية الكردية" وهي طريقة قديمة ومعروفة منذ عشرات السنين -كما يقول المعالج الشعبي أبو جمعة- لـ"اقتصاد" مضيفاً أن "هذه العملية تقتصر على حصر المنطقة التي فيها أكبر كمية من الشعر بين عودي خشب وربط العودين معاً من كل طرف لكي يحدث اختناق وموت لهذه المنطقة المحصورة بين العودين، وما زالت هذه الطريقة مستعملة في مناطق عفرين وضواحيها (الشمال السوري) ولكنها نادرة".

وكان هناك الكثير من السيدات في المدينة والريف يقمن بلقط الرموش الملتوية بالملقط كلما نبتت ليُرحْن أولئك المسنين المصابين بعقابيل التراخوما، وهناك أيضاً طريقة طريفة تقوم على لصق الأهداب معاً بالعلكة (المستكة) أو بقليل من الزفت وقلبها إلى الأعلى ولصقها على الجلد.

وفي ظل الحرب والحصار وافتقار بلدات ريف حمص الشمالي لأطباء عينية يضطر الأطباء غير المختصين بالعينية في أغلب الأحيان لاستئصال العيون غير الوظيفية بعد تصويرها واستشارة الأخصائيين عن بعد"-كما يقول الطبيب أبو محمود- مشيراً إلى أن "الحالات الأقل حرجاً كالجروح البسيطة والجروح الصلبة وجروح القرنية التي لا يستدعي أمرها استئصال العين يتم وصف العلاج الدوائي لها وتأمين طريق للعلاج خارج ريف حمص".

 ولفت محدثنا إلى عدم وجود عمليات جراحية للعيون في ريف حمص باستثناء الاستئصال وتفريغ الحجاج وهي العملية الوحيدة التي يستطيع الأطباء غير المختصين إجراءها، أضف إلى ذلك انعدام وجود معدات أو تقنيات لإجراء عمليات دقيقة، مما يدفع الناس للبحث عن وسائل وطرق بدائية للعلاج مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك.

ترك تعليق

التعليق