رأس المال البشري في سوريا.. كنزها الضائع


خسارة نهائية لـ  3.2 مليون سوري من قوّة العمل التي تشكّل أساس رأس المال البشري.
انخفضت القوة العاملة السورية بنسبة 45% خلال خمس سنوات من الحرب.
خسارة القوة العاملة السورية بنسبة 9% سنوياً.


كثيرة هي الدراسات التي تناولت الخسائر الاقتصادية المادية التي لحقت الاقتصاد السوري بسبب الحرب في مختلف قطاعاته، وهذا يعني أنّ الدراسات ركّزت على رأس المال المادي، وذكرت دراسات للأمم المتحدة أنّ الخسارة في هذا الجانب المادي تجاوزت 300 مليار دولار...

أما الدراسات في رأس المال البشري فكانت شحيحة، على الرغم من أهمية هذا الجانب في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فدخولنا في الثورة المعلوماتية والمعرفية في أواخر القرن العشرين، أدخلنا فيما يعرف بـ "اقتصاد المعرفة"، والدخول في اقتصاد المعرفة شرطه الأوّل هو رأس المال البشري.

ومن هنا سنبين في هذه الدراسة معنى رأس المال البشري، واهتمام الدول في هذا العنصر، وواقع رأس المال البشري خلال الثورة السورية، وآثار تدهور رأس المال البشري السوري على التنمية المستقبلية.

ونشير إلى أننا في هذه الدراسة:

1 ـ اعتمدنا على مفهوم القوة العاملة التي تعتبر جوهر رأس المال البشري، أي أننا استبعدنا الأطفال ومن يزيد عمرهم عن 60 عاماً، ونكون بذلك أخذنا الحد الأدنى من خسارة رأس المال البشري، لكن في الحقيقة أنّ أطفال اليوم هم قوّة عمل المستقبل، لكنهم في سوريا سيكونون قوة عمل متخلّفة...!!!

2 ـ ونذكّر انّ الأرقام الحقيقية هي أكبر مما عرضناه، لكن بسبب شحّ الإحصائيات اعتمدنا على ما نعتبره الحد الأدنى من الكارثة السورية.

أولاً ـ معنى رأس المال البشري:

يُقصد برأس المال البشري "مجموعة المعرفة والمهارات والخبرات والإمكانات والقدرات والصفات والخصائص المختلفة الكامنة في الأفراد، والتي لها صلة وارتباط في النشاط الاقتصادي".

فرأس المال البشري هو الثروة الحقيقية للأمم، وأساس عمليته التنافسية الاقتصادية باعتباره أساس الابداع والابتكار، ورأس المال البشري غير قابل للتقليد كرأس المال المادي الذي يسهل تقليده.

ثانياً ـ اهتمام الدول برأس المال البشري:

من الأمثلة الناجحة عن التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي كان دافعه الجوهري هو الاستثمار في رأس المال البشري، هو تطور البلدان الآسيوية، وعلى رأسها الصين والهند وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا.

ولنأخذ على ذلك تجربة ماليزيا باختصار شديد:

فماليزيا مع مهاتير محمد وخلال 22 عاماً ـ 1981م إلى 2003 ـ أصبحت من الاقتصاديات المتقدّمة عالمياً، إذ تحولت من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الاجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصَنَّعة 85% من اجمالي الصادرات، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية، وبات من الطبيعيلهذا التطور أن انخفضت نسبة السكان تحت خط الفقر من 52% من اجمالي السكان في عام 1970، أي أكثر من نصفهم، إلى 5% فقط في عام 2002، وارتفع متوسط دخل المواطن الماليزي من 1247 دولارا في عام 1970 إلى 8862 دولارا في عام 2002، أي أنّ دخل المواطن زاد لأكثر من سبعة أمثال ما كان عليه منذ ثلاثين عاماً، وانخفضت نسبة البطالة إلى 3%.

وكان السبب الجوهري لهذا التقدّم هو تركيز حكومات مهاتير على الاستثمار على الإنسان من خلال التعليم والتدريب المستمر، فكانت نسبة الإنفاق على التعليم ما يقرب من 24% من ميزانية ماليزيا سنوياً، ووصل نصيب الفرد من نفقات التعليم 150 مليون دولار سنوياً، وأصبحت النساء في أعلى درجات التعليم والتدريب: فنسبة الإناث في ماليزيا 49.3% من عدد السكان البالغ 30 مليوناً، وكانت نسبتهنّ في التعليم: الابتدائي 64.6 %، وفي الثانوي 62.8 %، وفي الفني 41.9 %، ونسبتهنّ في التعليم الجامعي 54.9 %.

فالآسيويون أدركوا أنّ الإنسان هو الثروة الحقيقية، فاستثمروا فيه، فأصبحوا أساتذة في التقدّم الحضاري...

ثالثاً ـ واقع رأس المال البشري خلال الثورة السورية:

بعد مضي ما يقرب من ست سنوات على عمر الثورة السورية بات رأس المال البشري السوري في منتهى الخطورة، ويمكن تلمس ذلك من خلال الأمور الآتية:

1 ـ الشهداء: بلغ عدد الشهداء السوريين ما يقرب من 500 ألف شهيد، وإذا استثنينا منهم الأطفال والشيوخ الذين يزيد عمرهم عن 60 عاماً، فنكون قد خسرنا 400 ألف من القوة العاملة.

2 ـ الإعاقات الجزئية والكاملة: نقلت صحيفة الوطن الموالية للنظام عن رئيس الهيئة العامة للطب الشرعي حسين نوفل في دمشق، أنّ الحرب خلفت حتى الآن مليوناً ونصفَ مليون جريح ممن فقدوا أحد أعضائهم.
وجاء في شبكة المرأة السورية: بلغ نصيب السوريين من الإعاقة حتى نهاية 2014 حوالي مليون انسان معاق بدرجات متفاوتة، مع ترجيح تفاقم حالاتهم نتيجة الحرب المستمرة والافتقار المتزايد لشتى صنوف العلاج والأدوية والرعاية.

وفي آذار 2015، حذرت المنظمة الدولية للمعاقين من أنّ مليون سوري مصاب، مهدد بالإعاقة الدائمة دون أن تشير إلى عدد المصابين بالإعاقة منذ بدء الحرب، مشيرةً إلى أنّ جيلاً كاملاً من المصابين والمشوهين والمعاقين سيظهر في سورية إذا لم يتحرك المجتمع الدولي.

فإذا كان عدد المعاقين 1.5 مليون، واعتبرنا أنّ الأطفال والشيوخ فوق 60 عاماً 300,000 معاقاً، فيكون عدد القوة العاملة المعاقة 1,200,000 معاقاً.

3 ـ اللجوء: يقدّر عدد اللاجئين السوريين في دول اللجوء على النحو الآتي:

3 ملايين في تركيا، 1.5 مليون في لبنان، 1 مليون في الأردن، 500 ألف في العراق ومصر السودان وباقي الدول العربية، 1.5 مليون في أوربا، فيكون بذلك عدد اللاجئين السوريين الإجمالي: 7.5 مليون لاجئ.

نلاحظ من خلال رقم اللاجئين أنّ 3 ملايين في تركيا، 3 ملايين  في دول عربية، و1.5 مليون في أوربا.

ومعلوم أنّ تركيا فتحت باب الإقامة والتجنيس خصوصاً لأهل الكفاءات وأصحاب الأموال؛ لذلك بعد انتهاء الحرب في سوريا فسيبقون في تركيا، ولنفترض أن عدد من سيبقى هو 1 مليون، أما اللاجئون في الدول العربية فلنفترض أنّ كلَّهم سيعودون إلى سوريا، أما من هاجر أو لجأ إلى أوربا فعلى الغالب لن يعود إلى سوريا، وخصوصاً أنّ ألمانيا تخطط لتوطين 1 مليون من اللاجئين، لكن لنفترض عدد من سيبقى هو مليون.

مما سبق نجد أنّ مليونين من اللاجئين لن يعودوا إلى سوريا؛ أي أننا خسرنا مليونين من السوريين، فيهم لا يقل عن 1.6 مليون من القوة العاملة.

4 ـ الباقون في سوريا: بلغ عدد النازحين في الداخل السوري ما يقرب من 8 ملايين نازح يعيشون أقسى الظروف الاقتصادية والإنسانية، ومن يعيش في مناطق النظام زادت معاناته كثيراً، وعلى العموم ما بقي في داخل سوريا من السكان يعيش أكثر من 85% منهم دون خط الفقر، وأكثر من نصف هذه النسبة تحت خط الفقر المدقع؛ لذلك هناك هدم حقيقي في الداخل السوري لرأس المال البشري المتبقي، وهذا الهدم كمّي من خلال القتل والإعاقات اليومية المتزايدة بتزايد وحشية الحرب في سوريا، وهدم معنوي من خلال الفشل الفظيع في إعداد رأس المال البشري؛ بل إنّ الأمية باتت تعود إلى سوريا بشكل مخيف...!!

من خلال ما سبق نجد:

1 ـ خسارة نهائية لـ  3,200,000 سوري من قوّة العمل التي تشكّل أساس رأس المال البشري.

2 ـ ما تبقى من قوّة العمل في الداخل السوري لا يتم إعدادها؛ بل يتم تدميرها مادياً ومعنوياً، وهذا يقود لتدمير ما تبقى من رأس المال البشري داخل سوريا.

ولمعرفة خطورة هذه النتائج يجب علينا أن نعرف ما هو مجموع القوة العاملة في سوريا، ولمعرفة ذلك نقول: إنّ نسبة القوة العاملة في سوريا هي 32% من مجموع عدد السكان، وقد بلغ عدد سكان سوريا 22.5 مليون نسمة عام 2013م، وبهذا يكون عدد القوة العاملة في سوريا 7.2 مليون، أما الآن وبعد الخسائر الكبيرة التي ذكرناها يصبح عدد القوة العاملة الفعلي 4 ملايين؛ أي انخفضت القوة العاملة بنسبة 45% خلال خمس سنوات من الحرب؛ أي بنسبة 9% سنوياً، وهذا مؤشر خطير على تدهور رأس المال البشري...!!!

ويزداد الأمر خطورة إذا تذكرنا أنّ ما بقي من القوة العاملة لا يتم إعدادها؛ بل هي في تدهور مستمر...

فكيف لو استمرّت الحرب خمس سنوات أخرى...!؟

رابعاً ـ آثار تدهور رأس المال البشري السوري على التنمية المستقبلية:

إنّ خسارة رأس المال البشري، وخصوصاً القوة العاملة منه، يعتبر كارثة اجتماعية واقتصادية على مستقبل التنمية في سورية، ولعلّنا نشير إلى أهم النقاط المخيفة من تدهور رأس المال البشري في سوريا، والتي تعني:

1 ـ  خسارة مفتاح التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقبلية.
2 ـ خسارة  الأساس في البحث العلمي وتقنياته وتوظيف نتاجاته.
3 ـ خسارة  أساس الإبداع والابتكار التي هي أساس التنافسية.
4 ـ خسارة  أساس التنظيم والتنسيق بين مختلف عناصر الإنتاج المادية والبشرية.
5 ـ خسارة رأس المال البشري الذي يخلق مصادر دخل جديدة غير قابلة للنفاذ، وتكون بديلة عن الموارد القابلة للنفاد كالنفط والغاز...

ومن حيث النتيجة: يعتبر رأس المال البشري القاعدة المتجدِّدة التي تستمد منها جميعُ عناصر الإنتاج وجودَها وديمومتها وتطورها، فإنْ وُجد وُجِدَت التنمية، وإنْ تخلّف تخلَّفَتْ معه التنمية.

وسئل يوماً المفكر العربي مالك بن نبي السؤال الآتي:
ماذا سيحصل إذا تمّ تدمير نيويورك ـ بكل ما تحمل من تطور ـ  رأساً على عقب !؟
فقال مجيباً: سيبنيها الأمريكان بأفضل مما كانت بمئات المرات؛ لأنّ الإنسان الأمريكي الصانع لم يَمُتْ..!!!

إذن فخسارة رأس المال المادي يمكن تعويضها بسرعة، لكن خسارة رأس المال البشري هي الخسارة الحقيقية التي يصعب تعويضها بسرعة؛ لأنّك تحتاج أن تصنع إنساناً متعلّماً متدرّباً يملك الكفاءات والقدرات والصفات المنتجة...وهذا أمر عسير يحتاج لإنفاق كبير ولزمن طويل...

ترك تعليق

التعليق