رأس المال الاجتماعي في سوريا.. من النزيف إلى التشظّي


عند المقارنة بين الرواتب والأجور بين دول الشمال والجنوب، نجد الفارق الكبير، فعلى سبيل المثال تتقاضى الممرضة في ألمانيا دخلاً سنوياً يعادل ثلاثين مرة مقارنة بما تتقاضاه الممرضة في بنغلاديش أو زامبيا أو الصومال أو السودان أو سوريا أو الجزائر أو مصر...، وهذا الفرق في الدخل لا يعكس اختلافات في المهارات أو الخبرة، وإنما يعكس الفرق في "الثروة المجتمعية" التي تراكمت خلال الفترات التاريخية السابقة في كلّ بلد من بلاد المقارنة، سواء الثروة المجتمعية المادية (مصانع، طرق، مدارس، مستشفيات، جامعات، وسائل اتصال حديثة...) والتي يُعبّر عنها "برأس المال المادي"، أو الثروة المجتمعية المعنوية (كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وحرية الصحافة، وأنظمة لنشر الأفكار الجديدة بشكل سريع، ونقابات العمال، وأنماط إيجابية للتفاعل الاجتماعي، ونظام قضائي يدافع عن القانون والعدل، والعقلانية....) والتي يُعبّر عنها "برأس المال الاجتماعي".

وفي الحقيقة لتحقيق التنمية الشاملة، واللحاق بالدول المتقدّمة لابدّ من الاهتمام والتكامل بين:
1 ـ رأس المال المادي(Physical Capital):(أموال، مصانع، جامعات، مدارس، مستشفيات...).
2 ـ رأس المال البشري(Human Capital): (معارف، خبرات، مهارات...).
3 ـ رأس المال الاجتماعي (Social Capital).

ومن هنا في هذه الدراسة سيكون موضوعنا هو رأس المال الاجتماعي، وسنركز فيه على الواقع السوري النازف، وستكون نقاط دراستنا: تعريف رأس المال الاجتماعي، أهمية رأس المال الاجتماعي، واقع رأس المال الاجتماعي في سوريا، النتائج والتوصيات.

ولنبدأ بالمقصود:

أولاً ـ تعريف رأس المال الاجتماعي (Social Capital):

رأس المال الاجتماعي: هو مجموعة العلاقات والروابط والقواعد الاجتماعية والقيم المتبادلة التي تربط بين الناس في المجتمع، والتي تساهم في تحقيق واستدامة التنمية الشاملة.

وينطوي مفهوم رأس المال الاجتماعي على الجوانب الآتية:

1 ـ جانب رأس المال: فرأس المال يشير أساساً إلى أنّ رأس المال الاجتماعي يتكون من خلال التراكم عبر فترات طويلة من الزمن, ومن هنا فمن الصعب تخيل أن يتكوّن رأس المال الاجتماعي بصورة وقتية أو سريعة لخدمة موقف مفاجئ أو حالة عارضة.

2 ـ والجانب الاجتماعي: ويشير الجانب الاجتماعي إلى حقيقة بدهية مؤداها أنّ رأس المال الاجتماعي لا يكون فرداً بذاته ـ كما هو الحال في رأس المال المادي أو البشري ـ وإنّما يتكوّن في إطار جماعة اجتماعية يرتضي الأفراد الانضمام لها من أجل استغلال ما توفره العضوية في هذه الجماعة من مزايا ورصيد اجتماعي، ويعبر عن الجماعة بالشبكات الاجتماعية، مثل الأسرة، والمدرسة، والنادي، والأحزاب، والنقابات والجمعيات، وباقي منظمات المجتمع المدني.

3 ـ وجانب المنظومة القيمية: وتأتي على رأسها قيم الثقة، والشفافية، وتحمل الآخر، والرغبة في التعاون معه، والعقلانية، وحسن النية, والزمالة, والتعاطف، والتضحية، والإخلاص،وغير ذلك من قيم الحداثة.

وهذه المنظومة القيمية يجب أن تكون ضمن الشبكات الاجتماعية، أي لابدّ من انخراط أفراد هذه المنظومة القيمية ضمن الجماعات في المجتمع لتكوِّن رأسَ مال اجتماعي.

ثانياً ـ أهمية رأس المال الاجتماعي:

جميع الدول التي اهتمّت في جانب رأس المال المادي، وأهملت الجانب البشري والاجتماعي منه، لم تفلح في تحقيق تنميتها، وهذا حال الدول العربية، والدول التي اهتمت بالجانب المادي والبشري استطاعت تحقيق التنمية، لكن ليست تنمية مستدامة، وذلك مثل الاتحاد السوفييتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية السابقة، والدول التي اهتمت بأنواع رأس المال الثلاثة حققت تنمية مستدامة كأمريكا وأوربا الغربية واليابان وماليزيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة..

وقد أثبت التاريخ التنموي بشكل لا يقبل الشّكَ أنّ توفّر رأس المال المادي وحده دونما توفر بقية الأصناف الأخرى من رأس المال- بما فيها رأس المال الاجتماعي- لا يُؤدي إلى الاستدامة.

إذن فرأس المال الاجتماعي يساعد في تحقيق التنمية الشاملة، من خلال التأثير على رأس المال المادي والبشري، ويحافظ على التنمية المستدامة.

وفي مثال، دراسة "روبرت بوتنام" عن "الديمقراطية في إيطاليا" والتي قارن فيها بين الشمال والجنوب الإيطالي من حيث مدى التقدّم والازدهار على المستويين السياسي والاقتصادي, فعلى الرغم من امتلاك أقاليم الشمال والجنوب لنفس أدوات الإنتاج والمهارات البشرية والموارد المادية, إلا أنّ أقاليم الجنوب حققت تقدماً واضحاً على محافظات الشمال من حيث درجة التقدم والازدهار الاقتصادي, وأرجع "بوتنام" ذلك إلى امتلاك أقاليم الجنوب لرصيد مرتفع من "رأس المال الاجتماعي" عن أقاليم الشمال.

ومن هنا يمكن أن نقول: إنّ تراكم "رأس المال الاجتماعي" هو المفتاح لنمط جديد من التنمية المستدامة أكثر إنسانية واستدامة, وأنّ الثروة الممثلة برأس المال الاجتماعي يمكن أن تعتبر غاية بذاتها, كما أنّ العيش بالمجتمعات التي تتسم برأس مال اجتماعي متطور، يكون أفضل بكثير من العيش في المجتمعات التي يكون فيها رأس المال الاجتماعي ضعيفاً, كذلك يخلق وجود رأس المال الاجتماعي المتطور بيئة صالحة للنمو الاقتصادي.

ثالثاً ـ واقع رأس المال الاجتماعي في سوريا:

نحن بالأصل في سوريا نعاني منذ أربعة عقود من نزيف في رأس المال الاجتماعي، سواء على صعيد تجفيف ينابيع القيم، أو على صعيد تفريغ الشبكات الاجتماعية من مضمونها، وجعلها هلامية تسير في ركب النظام الحاكم، لتكون وظيفتها الأساسية هي التسبيح بحمد النظام وتنزيهه...

أما الآن وبعد ست سنوات من اندلاع الثورة السورية، فوصلنا ـ من حيث العموم ـ إلى مرحلة التشظّي في رأس مالنا الاجتماعي، ويظهر ذلك في ناحيتين:

الناجية الأولى ـ الشبكات الاجتماعية:

ويظهر ذلك من خلال:

1 ـ الأسر السورية: الأسر السورية وقعت تحت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية...مما جعل الأسرة تُضيع الكثيرَ من قيم "رأس المال الاجتماعي"، وتكتسب قيماً سلبية، فالأمية بدأت تنتشر، والإيديولوجيا المتناقضة ضمن الأسر المختلفة، والعنف بأشكاله المختلفة، هذه العوامل وغيرها هي عوامل هدم لرأس المال الاجتماعي الأسري.

2 ـ المدارس والجامعات: بالأصل العديد منها قد هُدّم أو أغلق، وما تبقى أصبح يصدّر قيماً سلبية تضر برأس المال الاجتماعي، فأصبحنا نجد في هذه الشبكات الاجتماعية الشحن الطائفي والعرقي وزرع قيم التعصّب، والكراهية، والمناطقية، والانتقام...!!!

3 ـ منظمات المجتمع المدني: بعد انهيار منظمات المجتمع المدني في المناطق المحررة، بدأنا نشهد نشوء منظمات جديدة، لكن هذه المنظمات في عمومها، لا تخدم مفهوم رأس المال الاجتماعي؛ لأنها في عمومها قامت على أساس مناطقي أو عرقي أو طائفي أو مصلحي ضيّق...وهذه المنظمات في عمومها متعارضة ومتصارعة، وتحاول أن تحلّ الواحدة محل الأخرى، أحياناً بصورة مباشرة، وأحياناً بصورة غير مباشرة، وكثير من هذه المنظمات تتبع لأجندات غير وطنية...

أما منظمات المجتمع المدني داخل مناطق النظام، فهي ليس لها من العمل المهني غير اسمها؛ أما بالحقيقة فتحولت إلى ذراع بيد النظام تنفذ أجندته التي تهدم رأس المال الاجتماعي السوري ليل نهار...

4 ـ منظومة القيم:

إلى الآن في سوريا: أكثر من 600 ألف قتيل ومفقود، 1 مليون جريح ومعاق، 4 ملايين منزل مدمّر بشكل جزئي أو كلي، 8 ملايين نازح في الداخل السوري، 7 ملايين لاجئ، 11 ألفاً من المدارس المدمّرة، 200 مستشفى مدمّر، تدمير قطاع النفط، خراب قطاع الكهرباء، تدمير القطاع الصناعي، 85% من الشعب السوري دون خط الفقر، ونصف هذه النسبة ضمن الفقر المدقع، 3 مليون طفل خارج مؤسسات التعليم، الأحزاب الكردية اقتطعت جزءاً من سوريا، وتنظيم الدولة الإسلامية اقتطع جزءاً من سوريا، وباقي تنظيم القاعدة في مناطق أخرى، وهناك معتدلين إسلاميين، وهناك جيش حر، وهناك علمانيين...

بعد كلّ هذا ماذا سيحلّ في المنظومة القيمية في المجتمع السوري..!!؟

من الطبيعي أنّ المنظومة القيمية الايجابية قد اضمحلّت، وبدأت تظهر قيم سلبية؛ ليتم تشكيل منظومة قيمية هدّامة، ومن مفردات هذه المنظومة:

ـ جعل الانتماء الإثني (العرقي) هو الأساس، فهذا كردي وهذا عربي وهذا تركماني، وهذا آشوري...

ـ اشتعال نيران الطائفية: فهذا تكفيري، وهذا معتدل، وهذا نصيري، وهذا درزي، وهذا مسيحي...

ـ المناطقية: فحتى أبناء منطقة ما باتوا يستأثرون بمناطقهم، ويعتبرون من ينزح إلى مناطقهم كأنّه محتل أجنبي..!!

ـ انعدام الثقة: فالثقة باتت شبه منعدمة بين مكوّنات الشعب السوري؛ لذلك تجد أنّ هذه الإثنية (العرقية) لا تثق بتلك، ولا هذه الطائفة تثق بتلك، ولا هذه المنظمة بتلك، ولا الجماعة بالدولة، ولا الفرد بالدولة...والمجتمع الذي تضعف أو تنعدم فيه الثقة المجتمعية، يصعب تحقيقه للتنمية والحرية؛ لفقده أحد أركان "رأس المال الاجتماعي"...

يذكر "بوتنام" في إحدى كتاباته أن: "الجماعة التي يكون أعضاؤها جديرين بالثقة، ويضعون ثقة بالغة في بعضهم البعض، سوف تكون أكثر قدرة على الإنجاز، بالمقارنة مع الجماعات الأخرى التي تفتقد للثقة بين أفرادها".

وأكّد على الأهميّة الكبيرة لـ "الثقة المجتمعية", من أجل قيام أيّ نظام ديمقراطي ناجح, حيث تمثل الركيزة الأساسية للعملية الديمقراطية, إذ تجعل المواطن أكثر رغبة في المشاركة في شؤون مجتمعه، نتيجة لثقته أنّ رأيه ومطالبه لهما تأثير في عملية صنع القرار.

ـ انعدام التعاون: من الطبيعي عند سيطرة قيم الإثنية والطائفية والمناطقية أن ينعدم التعاون، وانعدام التعاون يعني غياب ركن أساسي من "رأس المال الاجتماعي"، مما يعني غياب التنمية...

ـ غياب أو ضعف قيم العقلانية، والشفافية، وتحمّل الآخر، والزمالة، والتضحية، وغيرها من قيم "رأس المال الاجتماعي"، لتحلّ مكانها قيم سلبية تساعد على هدم رأس المال الاجتماعي...

إذن رأس مال سوريا الاجتماعي تعرّض للتشظّي على مستوى شبكته الاجتماعية وعلى مستوى منظومته القيمية الفاعلة.

رابعاً ـ النتائج والتوصيات:

أ ـ النتائج: نصل مما سبق إلى النتائج التالية:

1 ـ رأس المال الاجتماعي شرط لتقدّم رأس المال المادي والبشري، وشرط للتنمية المستدامة.
2 ـ رأس المال الاجتماعي السوري كان يعاني من النزيف منذ عقود، لكنّه في مرحلة الثورة وصل إلى مرحلة التشظّي، التي تنذر بتقسيم المجتمع السوري.
3 ـ رأس المال الاجتماعي السوري يُنذر بضعف قدرته على تحقيق تنمية شاملة في المدى المنظور.
4 ـ ضعف أو تدهور رأس المال الاجتماعي السوري، يُضعف حسّ الشعور الوطني، ويساهم في تقسيم سوريا.
5 ـ تمّ تحويل الدين والإثنيات من مصادر إيجابية لتكوين رأس المال الاجتماعي إلى مصادر سلبية لهدم لرأس المال الاجتماعي السوري.

ب ـ التوصيات:
1 ـ العمل بكلّ الوسائل الممكنة، لتوضيح مفهوم "رأس المال الاجتماعي" بين كافة فئات الشعب السوري، ودوره في خلق التنمية الشاملة وخدمة الأوطان.
2 ـ أن يحاول المثقفون السوريون والمعارضون وأصحاب الكفاءات...أن يكونوا أداة حقيقية واقعية تبدأ البناء في رأس المال الاجتماعي من الآن، بدلاً من واقعهم الحالي الذي لا يخدم هذا المفهوم؛ لأنّ عدم البدء من الآن سوف يخلق مستقبلاً معقّداً يصعب معه النجاح.
3 ـ مهما بلغت درجات العنف والقتل والتخريب والتهجير والظلم... في سوريا، فلابدّ من بناء رأس المال الاجتماعي السوري؛ لأنّه أساس عملية التنمية الشاملة، وأساس السلم الأهلي، والوحدة الوطنية؛ لذلك لابدّ للسوريين أن يضعوا حدّاً لنزاعاتهم بأنفسهم، فالطرف الخارجي لا يريد لهذه الحرب أن تنتهي؛ كي يصل إلى تدمير ما بقي من رأس المال المادي والبشري والاجتماعي السوري، وإذا لم يقتنع السوريون بذلك، فلن تكون الخسارة لرأس المال الاجتماعي السوري فقط؛ بل قد تصبح الحياة في سوريا موحّدة حلماً غير قابل للتحقيق..!!

ترك تعليق

التعليق