ضمانات الأسد للروس، ولبّ الحكاية السورية


تتصادف الأقدار أحياناً، كي تكشف مهزلة ما في حياة الأفراد والشعوب. ففي يوم واحدٍ، يمر خبران متناظران، لا يلقيان كثيراً من الاهتمام، لكنهما يؤشران جلياً إلى مهزلة مؤلمة في حياة الشعوب الخاضعة لأنظمة مستبدة، حيث الاقتصاد مُستباح، وحيث للحاكم الكلمة المطلقة في موارد البلاد، وإن كان يحاول تجليلها بستار رقيق شفاف من البيروقراطية الرسمية التي تتمنطق باسم الدولة.

يوم الجمعة، مرّ الخبران المتناظران سهواً على كثير من المراقبين. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، ينكمش دونالد ترامب، الرئيس لأكبر دولة في العالم، في عقر داره بالبيت الأبيض، ملجوماً بأدوات الديمقراطية الغربية، من سلطة تشريعية ووسائل إعلام ورأي عام، فيرفض طلباً لشركة نفطية كبرى، للاستثمار لدى معشوقته السابقة، روسيا، خشية أن يُشار إليه بالبنان، على أنه عميل بوتيني.

للتوضيح، لمن لم يطلع على الخبر، أو يحيط بحيثياته، فقد رفضت وزارة الخزانة الأمريكية، يوم الجمعة، طلباً لعملاق النفط الأمريكي، "إكسون موبيل"، بالسماح لها بالتنقيب عن النفط والغاز في روسيا. "إكسون موبيل" هذه، كانت منذ أشهر فقط، تخضع للإدارة التنفيذية من جانب ريكس تيلرسون، الذي يحتل اليوم موقع وزير الخارجية.

يعلم كثير من المراقبين، أن إدارة ترامب تعج بالشخصيات الميّالة لروسيا، والتي سبق أن ربطتها بها، وما تزال، مصالح جليّة، عبر شركات كانت تديرها أو لها أسهم فيها. وفي مقدمة تلك الشخصيات، دونالد ترامب، ذاته.

لكن، بعد أن أصبحت تلك الشخصيات، ترامب، وتيلرسون، وآخرون.. في موقع المسؤولية بواشنطن، بات سيف أدوات الديمقراطية الغربية، مسلطاً عليهم. واضطر ترامب لرفض طلب "إكسون موبيل"، بذريعة وجود عقوبات على روسيا، هي العقوبات ذاتها التي سبق أن انتقدها في حملته الانتخابية قبل توليه الرئاسة. أما السبب الدقيق لرفض ترامب طلب "إكسون"، يحمل عنواناً آخر، غير العقوبات، إنه "تضارب المصالح" المحتمل، الذي كان سيحصل، لو وافق ترامب على طلب "إكسون". حينها، سيكون هناك تضارب في المصالح بين الدولة الأمريكية، التي من المفترض أن ترامب ورجال إدارته، يمثلونها اليوم، وبين المصالح الشخصية لترامب ورجال إدارته، التي ترتبط باستثمارات وعقود مع روسيا. لذا، فضّل ترامب مصالح الدولة الأمريكية. ليس لأنه رجل نزيه، بل لأن هناك سيفاً مسلطاً على رقبته، اسمه، ثلاثي، السلطة التشريعية والرأي العام ووسائل الإعلام، التي هي أبرز أدوات الديمقراطية الغربية.

على النقيض من ذلك تماماً، وفي نفس اليوم، يوم الجمعة، تنشر وكالة "سبوتنيك" الروسية، الخبر النظير، للخبر السابق، والذي مرّ دون كثير عناية من معظم المراقبين، ربما لأنه لم يحتو على جديد ملفت.

الخبر كان في سياق حوار نشرته الوكالة، مع بشار الأسد، رأس النظام بدمشق، حيث تطرق الأسد إلى مواضيع عديدة. لكن الحوار خُتم بإشارة روسية حاول الأسد التعمية عليها بإجابة غير مباشرة، كعادته.

إذ سأله المحاور الروسي، عن حصيلة زيارة نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، إلى دمشق، مؤخراً، والتي قال في نهايتها، إنه تلقى ضمانات من الأسد شخصياً، بأن الشركات الروسية سيكون مرحباً بها، وستحظى بالأولوية. وتساءل المحاور الروسي، بشكل غير مباشر، عن تلك الضمانات. لكن الأسد، لف ودار، وتحدث عن القوانين التي تحكم "الدولة السورية"، والتي يتم التقيد بها خلال إبرام العقود مع مختلف الشركات. لكنه أقرّ، في خضم هذا اللف والدوران، بأن الجزء الأكثر أهمية بالنسبة للروس، هو النفط والغاز، وأنه سيكون لهم. جاء ذلك الإقرار بعبارات غير مباشرة، كعادة الأسد، لكنها دون شك، مفهومة لكل مراقب، بما فيه الروسي الذي يتحدث إليه.

الأسد، بوصفه رئيساً للـ "الدولة السورية"، يمنح ضمانات نفطية لدولة تدعمه في حرب مع جزء كبير من شعبه الرافض له. لكنه لا يتحدث عن تفاصيل تلك الضمانات. فالموارد في بلداننا مستباحة من جانب الحاكم. ولا يجد الأخير أي سيف مسلط على رقبته، يجعله يخشى المحاسبة. لذا يفعل ما يحلو له بتلك الموارد، بما يخدم مصالحه، ومصالح المقربين منه.

في نهاية المطاف. نقرّ دون شك بأن الديمقراطية ليست نموذج الحكم المثالي الذي يخلو من أية شوائب. لكنه دون شك، هو نموذج الحكم الأفضل، الذي توصلت إليه البشرية حتى اليوم، لأنه قادر على الحد من تغول أصحاب النفوذ والمسؤولين في موارد البلاد وثرواتها. وذلك هو لبّ الحكاية السورية منذ العام 2011. فحراك السوريين كان في البداية من أجل تلك الديمقراطية الحلم، التي تسمح لهم بمساءلة حاكميهم. لكن الدفة انحرفت كثيراً، لأسباب عديدة، لسنا بصدد تعدادها. فجاء الخبران المتناظران، أعلاه، ليذكرانا بمأساتنا، بصورة أعادت إلى أذهاننا لبّ الحكاية في سوريا.

ترك تعليق

التعليق