هل تهوي الليرة إلى "أيلول أسود" ثانٍ؟


في يوم أحدٍ خريفي، بتاريخ 8 أيلول/سبتمبر، قبل أسابيع فقط، هوت الليرة إلى قاعٍ غير مسبوق، في تاريخها، من حيث القيمة مقابل الدولار، وعاشت ما يمكن توصيفه بـ "أيلول أسود" خاصٍ بها. واليوم، يبدو أن "أيلول أسود" ثانٍ، مرشح لأن يعصف بالليرة مجدداً، ربما باتجاه كسر حاجز الـ 700 مقابل الدولار. لكن كيف نجزم إلى أين ستذهب الليرة؟ ربما الجواب يتضح بعد تحديد أسباب التدهور الأخير للعملة السورية.

قد يكون أبرز الأسباب، وأكثرها جلاءً، في اللحظة الراهنة، يرتبط بالاحتجاجات التي تعصف بالجار الصغير، لبنان. ويتعلق الأمر تحديداً، بإغلاق المصارف اللبنانية، وتجميد إمكانية السحب منها. وهناك، تقبع مليارات من الدولارات، لسوريين يتفاوتون من حيث حجم الثراء. بدءاً، بأصحاب الملاءة المالية الصغيرة، الذين وجدوا منذ بداية الثورة، عام 2011، في المصارف اللبنانية، منجاةً وضمانةً لقِيمِ أموالهم من تدهور الأوضاع في البلاد.. وليس انتهاءً، بحيتان سوريا الكبار، الذين يحتفظ الكثير منهم، بودائع احتياطية، رهن تصرفه الآني، في مصارف لبنان، بخلاف الودائع الأخرى، الأبعد، في بنوك دول و"جنات ضريبية" آمنة، حيث تكون الاحتياطيات هناك، مجمدة، ولا تتحرك إلا في حالات الطوارئ القصوى.

عجز أصحاب الودائع السورية، في المصارف اللبنانية، عن تحريكها، مع تفاقم الاحتجاجات في لبنان، وضبابية المستقبل هناك، وانفتاحه على سيناريوهات عديدة، قد يكون أحدها، انهيار اقتصادي كبير، حذّر منه حاكم مصرف لبنان المركزي، مؤخراً.. من الأسباب الوجيهة التي يبرر بها مراقبون عدة، التدهور الأخير لليرة السورية، التي وصلت، مساء الثلاثاء، إلى أدنى سعر لها، منذ "أيلولها الأسود"، السابق، الذي حلّ بها قبل سبعة أسابيع فقط.

لكن أسباباً أخرى، دعمت الاتحاه النفسي الذي دفع إلى المزيد من الطلب على الدولار في الأسواق السورية، مؤخراً. أبرزها، تهاوي مبادرة "دعم الليرة"، التي "طبّل" لها النظام ومؤسساته الإعلامية والاقتصادية، بصورة كبيرة جداً. ويبدو أن ضخ الدولار، توقف في الأسواق تماماً، وسط شائعات عن فراغ صندوق "دعم الليرة"، من السيولة التي تم جمعها فيه. وقد فرض الصندوق، في الأيام الأخيرة، قيوداً مشددة على شراء "دولار التدخل" من شركات الصرافة المُرخصة.

وحسب مصادر إعلامية، أصبح يتوجب على التاجر الراغب بشراء "دولار التدخل"، أن يكون من المستوردين حصراً، وأن يكون قد حصل على إجازة استيراد بعد 15 تشرين الأول/أكتوبر الجاري، وأن يسدد مقدار 10% من قيمة المبلغ الذي يريد تحصيله، في حساب المبادرة، ليحصل في النهاية على "دولار التدخل"، بسعر 603 ليرة.

كانت مبادرة "صندوق دعم الليرة" التي أطلقتها غرفة تجارة دمشق، بالتنسيق مع مصرف سورية المركزي، قد نجحت في دفع الليرة إلى الارتفاع، فقط، لبضعة أيام. ورغم الحديث عن جمع ملايين الدولارات، قسراً، من رجال أعمال موالين، إلا أن الأثر كان محدوداً من الناحية الزمنية، وهو ما دفع مراقبين، بعضهم تحدث عبر وسائل إعلام موالية، إلى وصف المبادرة بـ "الوهمية"، مشيرين إلى أنه لم يحدث ضخ حقيقي، نوعي، للدولار، في الأسواق.

بالتزامن مع ما سبق، تعرّضت آمال النظام ومؤيديه، للتهشيم، على أيدي الأمريكيين، الذين أكدوا أنهم لن يتركوا نفط "شرق الفرات"، لهم. وذلك، بعد أن كان النظام قد روّج لقرب استعادة آبار النفط في شمال وشرق البلاد، وهي تشكل احتياطي هائل من ثروة سوريا النفطية، يُقدّر بحوالي 90%. وكان الرهان على أن إيرادات النفط المرتقبة، تلك، ستخفف من ثقل وطأة الحاجة للدولار، لتمويل شراء المشتقات النفطية، وهو عبء ضخم يصل شهرياً إلى حوالي 200 مليون دولار.

وفي الوقت الذي كانت فيه وسائل إعلام موالية، تحتسب الفوائد الاقتصادية الهائلة، التي ستترتب على استعادة النظام لـ "شرق الفرات"، بنفطه وقمحه وقطنه، كانت واشنطن تحضّر مفاجأة من العيار الثقيل، مفادها، أنها لن تترك النفط للنظام وحلفائه.

ورغم أن الآفاق المستقبلية لسيطرة الأمريكيين على نفط "شرق الفرات"، ضبابية، ولا يمكن اعتبارها مستقرة.. إلا أن الأثر النفسي للتصريحات الصادرة عن إدارة ترامب، بخصوص الاحتفاظ بـ 90% من نفط سوريا، لصالحهم، كفيل بدفع سعر صرف الليرة إلى الانخفاض.

يتزامن كل ما سبق، مع استحقاقات فصل الشتاء، المُكلفة، لنظام الأسد، من مشتقات نفطية وقمح، وسواها. وكلنا يذكر أزمة المشتقات النفطية، التي عاشتها البلاد، في الشتاء الفائت. ما سبق، يزيد الطلب على الدولار، ويضعف الليرة أكثر.

وبالاستناد إلى ما سبق، يمكن إجمال أسباب التدهور الأخير لليرة، في ثلاثة عوامل، الاحتجاجات في لبنان، وقرار واشنطن إبقاء سيطرتها على نفط "شرق الفرات"، وهشاشة مبادرة "دعم الليرة". وإن كنا نريد تحديد الاتجاه المستقبلي لسعر صرف الليرة، في الأيام والأسابيع القليلة القادمة، نستطيع أن نقول، إن ذلك سيكون وقفاً على تطورات العاملين الأول والثاني، فالوضع في لبنان، ومصير نفط "شرق الفرات"، سيقبضان على خناق سعر صرف الليرة، وسيوجهانه وفق تطوراتهما.

أما بالنسبة لمبادرة "دعم الليرة"، فحتى لو حاول النظام مجدداً، إنعاشها، وبث الحياة في شرايينها، عبر إجبار رجال أعمال موالين له، على دفع ملايين جديدة من الدولارات، فإن تأثير ذلك سيكون مؤقتاً. لأن حجم الأموال التي يمكن ضخها في الأسواق، غير جدير بتثبيت سعر الصرف، مطلقاً.

وهكذا، ينحصر أفق سعر صرف الليرة، في الفترة القادمة، بمستقبل الاحتجاجات في لبنان، ومستقبل السيطرة الأمريكية على نفط "شرق الفرات". وقد يكون الوضع اللبناني، هو صاحب التأثير الأقرب زمنياً، فإن هدأت الأوضاع في لبنان، وتحديداً، إن فُتحت المصارف اللبنانية، وأُتيحت إمكانية السحب منها، مجدداً، فسيؤدي ذلك، سريعاً، إلى تحسن ملحوظ في سعر صرف الليرة. والعكس صحيح تماماً.. فإن اتجه لبنان نحو المزيد من التأزم، وربما، الانهيار الاقتصادي، فهذا سينعكس بصورة سلبية على سعر صرف الليرة السورية، ما دامت ودائع السوريين الهائلة في المصارف اللبنانية، غير متاحة لأصحابها.

أما بالنسبة لمصير نفط "شرق الفرات"، فسيبقى رهناً لتقلبات الإدارة الأمريكية، وصراعات الآراء والاستراتيجيات فيها، بين راغبٍ بالتأثير في المشهد السوري، عبر الاستحواذ على النفط، وبين راغبٍ بالانسحاب الكلّي منه، نظراً لضآلة أهميته في ميزان المصالح الأمريكية.

في ضوء ما سبق، نستطيع أن نقول أن "أيلول أسود" ثانٍ، قد تعيشه الليرة بحيث تهوي إلى سعر جديد هو الأقل في تاريخها، واردٌ بشدة، في المدى الزمني القصير، القادم.

ترك تعليق

التعليق