كنز الحوالات الذي قرصنته العائلة الحاكمة


لطالما ردد مسؤولو النظام، وفي مقدمتهم، حاكم مصرف سورية المركزي، حازم قرفول، عبارتهم الشهيرة، مع كل ارتفاع للدولار في سوريا، ومفادها أن السعر الرائج للدولار في الأسواق، "وهمي".

لكن ما حدث يوم الثلاثاء (10/12/2019)، كان كفيلاً بتأكيد حقيقة لطالما أدركها معظم السوريين، وهي أن "دولار النظام الرسمي"، هو الوهمي، وليس العكس. بل ربما نستطيع أن نصفه بـ "العبثي"، أيضاً.

ما يزال المركزي، حتى ساعة كتابة هذه السطور، يصرّ على سعر صرف لـ "دولار الحوالات"، مستقر منذ أكثر من ثلاث سنوات، عند 434 ليرة، للدولار الواحد. وسعر دولار "للصرافة والمصارف"، مستقر أيضاً منذ ثلاث سنوات، عند 436 ليرة، للدولار الواحد.

هذا السعر أعلاه، بات مؤخراً، مجرد شعار، يرفعه المركزي ليقول به، "سعر الصرف في السوق وهمي". مثله مثل شعار "المقاومة والممانعة" ضد إسرائيل والغرب، فيما براميل الموت تسقط على سوريين في إدلب.

لكن كما سبق وأحرجت إسرائيل نظام الأسد مراراً، وحشرته في زاوية اضطر معها أن يتزحزح عن نقطة ارتكازه مؤقتاً فقط، كذلك حدث على صعيد الاقتصاد. فإصرار مسؤولي النظام النقديين على سعر "دولار حوالات" رسمي، أقل بأكثر من 300 ليرة، لكل دولار واحد، عن سعر السوق، أدى إلى تسلل كل قنوات نقل الحوالات إلى الداخل السوري، من بين يدي المصرف المركزي.

وبعدما كان المركزي يحصّل إيرادات يومية تتراوح ما بين 3 إلى 7 مليون دولار، جراء الحوالات الداخلة إلى سوريا، في عصر أديب ميالة، حاكم المركزي الأسبق، حينما كان يتم تحريك سعر "دولار الحوالات" تماشياً مع تغيرات سعر الصرف في السوق السوداء، أصبحت الحوالات، اليوم، تصل إلى مكاتب وشركات الحوالات حتى المرخصة، وفي دمشق ذاتها، تحت نظر المركزي نفسه، ليتم تسليمها بأسعار قريبة من السوق السوداء، وبشكل شبه علني.

واليوم، يستطيع أي مهتم، أن يتتبع عبر مجموعات "واتس" خاصة، نشرة يومية تصدر عن شركات صرافة وحوالات، بعضها يعمل في مناطق سيطرة النظام، تخبر متابعيها بالسعر اليومي لدولار الحوالات، الذي عادةً ما يكون أقل من سعر السوق السوداء، الرائج، بفارق 10 إلى 30 ليرة، لا أكثر. وأصبحت بعض إعلانات تلك الشركات تصل إلى جوّالات متابعين من السوريين، بشكل شبه علني، دون أي تدخل من المركزي.

ببساطة، سمح المركزي لقناة تمويل مهمة له، أن تخرج من بين يديه، لصالح شركات ومكاتب صرافة، يبدو أنها تعود لمتنفذين مقربين من النظام، حسبما تقول مصادر مطلعة. وكالعادة، فإن حازم قرفول، عاجز عن تغيير السياسة، بصورة تخدم الاحتياطي الأجنبي في خزينة المركزي، في وقت يبدو فيه أن أصحاب القرار الحقيقي في رأس هرم النظام، يريدون هامشاً أكبر من التمويل والربح لزبانيتهم وواجهاتهم عبر مكاتب صرافة وحوالات وتجارة عملة، ناشطة في مناطق سيطرة النظام، وحتى في دول الجوار وبلدان اغتراب السوريين.

وفيما يلح قرفول على أن "دولار السوق" وهمي، تتفاقم خسارة المركزي، بحيث بات من الندرة أن تجد سوريين يرسلون حوالاتهم عبر قنوات تخضع للسعر الرسمي، من قبيل "ويسترن يونيون"، مثلاً.

وبالعودة إلى ما حدث يوم الثلاثاء (10/12/2019)، فكان مثالاً عن التعاطي الساذج، والفج، مع السوريين. ففيما يلح مصرف سورية المركزي في بياناته شبه الأسبوعية، على عدم الركون إلى أي نشرة أو تعميم، يُنقل عنه، ما دام لم ينشر في معرّفاته الرسمية (موقعه الرسمي أو صفحته الرسمية على فيسبوك)، أخفى المركزي عن السوريين قراراً هاماً للغاية، يكشف وهمية سعر دولار الحوالات الرسمي الذي ما يزال يتمسك به. إذ رفع المركزي السعر التفضيلي للدولار، وشمّل به موظفي وتحويلات المنظمات الدولية والسفارات والقنصليات العاملة في سوريا. وهو ما يبدو أنه جاء لإنقاذ آخر قناة متاحة للمركزي من قنوات نقل الحوالات، التي تخلى عنها تباعاً لصالح مكاتب وشركات الحوالات.

القرار صدر يوم الاثنين، وقبله بعدة أيام، صدر قرار تشميل موظفي وتحويلات المنظمات والسفارات. لكن المركزي لم يعلن القرار لا على موقعه الرسمي، ولا على صفحته الرسمية في "فيسبوك". وظهيرة الثلاثاء، تسرّب القرار، ونشرته عدة مصادر. لكن التسريب تعرّض للتشكيك من المتابعين، وقال معلقون إن الوثيقتين اللتين سربتهما صفحة "سيرياستوكس"، المعنية برصد أسعار العملات، مزورتين، لأنهما لم تُنشرا على المعرّفات الرسمية للمركزي. وهذا التشكيك كان مبرراً، إذ سبق أن سرّبت صفحات، من بينها "سيرياستوكس" نفسها، وثائق، ثبت لاحقاً أنها مزوّرة.

 لكن ما حدث يوم الثلاثاء كان مغايراً. ففي "اقتصاد"، أجرينا بحثاً مكثفاً لنتأكد من صدقية الوثيقتين، حتى وصلنا إلى مصادر في دمشق، تؤكد لنا أن الوثيقتين صحيحتين تماماً.

ويبدو أن انتشار الخبر أدى إلى تراجعٍ بوتيرةٍ أعلى لليرة السورية، وسط سوء فهم لمضمون الوثيقتين، بحيث فهمه البعض بأنه تغيير لسعر "دولار الحوالات" الرسمي، وهو ما أجبر المركزي على نشر توضيح مقتضب في موقعه الرسمي، وصفحته الرسمية في "فيسبوك"، يوضح فيه أن سعر الصرف الرسمي وسعر صرف الحوالات، لم يتغير، وأن ما تغير هو فقط، السعر التفضيلي للدولار القادم في تحويلات الأمم المتحدة.

 وادعى المركزي في بيانه أن الهدف هو فقط تغطية "حالة خاصة لغايات إنسانية وتمثل جزءاً من العمليات التي تجري بالقطع الأجنبي"، مضيفاً أن ذلك سيمكن "من زيادة قدرة المنظمات على تقديم دعم أكبر للأسر المتضررة جراء الحرب وتحقيق الأهداف الإنسانية المنوطة بها".

لكن لم يقل المركزي، لماذا أخفى قراره؟ ولماذا اضطر إلى هذا التوضيح بعد تسريب القرار وتأكيد صحته من مصادر إعلامية، كان من بينها "اقتصاد"؟

بطبيعة الحال، لن يجيبنا المركزي عن هذه الأسئلة. فهي تكشف عدم شفافيته، وتكشف زيف دعواته للاعتماد عليه كمصدر لأي معلومة خاصة بسعر الصرف وتطوراته. كما أنه لن يقول لنا، لماذا يلح على إبقاء السعر الرسمي لـ "دولار الحوالات" عند 434 ليرة؟

وفي الإجابة على السؤال الأخير، يتبرع مراقبون موالون له، ليقولون لنا، بأن رفع سعر صرف "دولار الحوالات" الرسمي، يعني إقرار المركزي بصحة سعر الدولار الرائج في السوق، مما سيؤدي إلى ارتفاع السعر الأخير، أكثر. لكن، في تعليقنا على هذا التبرير، نقول لهؤلاء الموالين: ماذا يعني رفع المركزي لسعر الدولار "التفضيلي" من 434 إلى 700 ليرة، دفعةً واحدةً؟ ألا يعني أن المركزي يقرّ بوهمية سعره الرسمي لـ "دولار الحوالات"؟

نترك الإجابة برسم المؤيدين الذين يبحثون عن أي تبرير، حتى لو لم يكن يتمتع بالموضوعية الكافية، فقط للتعمية على عبثية أداء مؤسسة من المفترض أنها ترسم السياسة النقدية لسوريا. لكن من جانبنا، نعلم جيداً، أن قرفول ومعاونيه في المركزي، مجرد مدراء تنفيذيين، بينما من يرسم السياسة النقدية للبلاد، هم العائلة الحاكمة، والمقربون منها. ولتلك العائلة استثمارات، من بينها، شركات ومكاتب صرافة مرخصة، تعمل في واحدة من أكثر القطاعات الخدمية ربحية، في بلدٍ يعاني اقتصاده من حالة أشبه بالانهيار. لذلك، فمن مصلحة هذه العائلة، أن يكون "دولار الحوالات الرسمي"، وهمي، فيحوّل الجميع عبر مكاتبهم وشركاتهم، بدولار قريب من سعر السوق السوداء، فتكون الأرباح لصالحهم، بدلاً من أن تذهب لخزينة المركزي. أما الأخيرة، فيمكن تعبئتها جزئياً، من حين لآخر، بحملة وهمية ضد الفساد، تصادر نسبة من أموال رجال الأعمال والتجار في البلد. أو بسبل أخرى. أما الحوالات، ذلك الكنز الذي كان يُدخل في عهد أديب ميالة، ما بين 3 إلى 7 مليون دولار، يومياً، إلى خزينة المركزي، فأصبح منذ أمد، في قبضة رموز النظام والمقربين منهم، ولصالح حساباتهم الشخصية.

ترك تعليق

التعليق