قوة السوريين المهدورة


يمكن للمقيم في القاهرة أن يقوم برحلة قصيرة إلى ميدان "الحصري" في ضاحية 6 أكتوبر، ليشاهد بنفسه الصبغة السورية التي حلت على قلب تلك الضاحية، تحديداً في الجوانب المتعلقة بالطعام، حيث يتوافد المصريون بكثرة إلى هناك بحثاً عن اللقمة السورية.

وليس بعيداً عن 6 أكتوبر، تتكاثر المصانع التي أنشأها سوريون، سواء في العاشر من رمضان، أو داخل نطاق 6 أكتوبر نفسها. وكذلك في الاسكندرية، تكثر مصانع السوريين في مجالات مختلفة، كما تكثر مطاعمهم، ويصبغون مناطق محددة بصبغتهم الخاصة.

نجد شيئاً من ذلك في أماكن تجمع السوريين في الأردن وكذلك في تركيا، حيث أصبح رأس المال السوري جزءاً حيوياً من النشاط الاقتصادي لتلك البلدان.

لكن حلقة مفقودة تُبقي السوري فرداً ضعيفاً في تلك المجتمعات، يعيش تحت رحمة تعاطف بعض أبنائها معه، ومراعاة بعض سلطاتها لظروفه الخاصة.

كشفت المأساة السورية التي نتجت عن حرب النظام على شعبه منذ العام 2011، من جديد، عن حيوية الفرد السوري وقدرته العالية على الإبداع والتكيّف والإنتاج. لكنها أيضاً كشفت عن خاصية سلبية فيه، تمثلت في الميل للفردية العالية، وعدم القدرة على العمل الجماعي بصورة منظمة.

وفيما نجد أن قوى عرقية ونقابية وطائفية، عديدة، تمتاز حول العالم بقدرات فريدة على تنظيم جهودها الجماعية في بوتقة مشتركة، تصب في صالح المجموع العام المنتمي لذلك العرق أو النقابة أو الطائفة، نجد السوريين مشتتين. ونجد كل مبادرات تنظيمهم، قد آلت للفشل، أو بقيت على نطاق ضيق.

يقرّ علماء السياسة والاقتصاد حول العالم، بأن التنظيم، أحد أسرار قوة أي مجموعة حول العالم. ومهما كانت تلك المجموعة محدودة الإمكانيات، فإن قدرتها العالية على تنظيم جهودها، ستجعلها قوة لا يستهان بها. والعكس صحيح تماماً.

في حالة السوريين في بلدان اللجوء والاغتراب. تبدو ظروف تنظيم جهودهم، متاحة، بل وضرورية أيضاً. يمكن أن تنطلق جهود التنظيم تلك من أسس مصلحية مثلاً، يتم فيها تحييد السياسة مؤقتاً، خدمةً للمجموع السوري العام في أي بلد. كأن ينظم رؤوس الأموال السوريين تجمعات خاصة بهم في كل بلد.

بطبيعة الحال، ظهرت محاولات عديدة في هذا المجال. وفي مصر بالذات، هناك تجمعان على الأقل لرؤوس الأموال السورية. لكن ارتباط هذين التجمعين بالنظام السوري في دمشق، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، جعلهما غير قادرين على لم شمل عموم رؤوس الأموال السوريين في مصر، بسبب اختلاف مواقف هؤلاء، من الصراع في سوريا.

لذلك، يبدو أن تحييد السياسة في هذه الحالة، أمر ضروري، وعدم الارتباط بالنظام، أمر غاية في الأهمية. ولا يعني ذلك بالضرورة الارتباط بالمعارضة أو بموقفها. يكفي أن يكون تجمع الأثرياء السوريين هذا بغاية خدمة المجموع السوري العام في مصر. ويمكن أن تُستنسخ هذه التجربة في تركيا والأردن وبلدان لجوء أخرى يكثُر فيها السوريون. وقد يُتاح في المستقبل القريب أن تتكامل تلك الجهود في تجمع عابر للحدود يمثل مصالح السوريين في عدة بلدان.

بالمحصلة، كلما طال أمد الصراع في سوريا، وطال بقاء كثير من السوريين في بلدان اللجوء والاغتراب، كلما زادت الحاجة لتنظيم جهودهم في تجمعات موحدة، تمثل مصالحهم أمام المجتمعات والسلطات في البلدان التي يقيمون فيها. وإلا سيبقون تحت رحمة التعاطف المتذبذب حيالهم، من جانب مجتمعات وسلطات البلدان التي تحتويهم.

وفي نهاية المطاف، ستبقى قدرات السوريين الفريدة على الإبداع والتكيّف والإنتاج، ذات محصلات فردية مشتتة، إلا إن أدرك السوريون سرّ قوتهم المهدورة، ومنحوا نصيباً من أوقاتهم واهتماماتهم، لصالح تنظيم المجموع السوري العام في أي بلد، في تجمعات موحدة تخدم مصالحهم المشتركة.

ترك تعليق

التعليق