سوريا.. سيناريوهات ما بعد تقلص التمويل الخارجي للمعارضة


بدأ الأمر بتقلص التمويل الإغاثي، ورافقه الحديث بكثافة عن تقلص أو انتفاء تمويل الفصائل المسلحة. لكنه طال لاحقاً مؤسسات إعلامية، وأخرى خدمية وأمنية، بصورة متسارعة مؤخراً. الأمر الذي يؤكد وجود تخلي إقليمي ودولي واسع، بالحدود الدنيا، عن تلك المؤسسات التي سبق وحظيت بتمويل ودعم سخي. الأمر الذي ينعكس بتداعيات خطيرة على حياة عشرات آلاف السوريين، بل ربما مئات الآلاف، ممن ارتبطت حياتهم المعيشية بتمويل خارجي، ونشاطات إعلامية أو خدمية أو مسلحة، مرتبطة بالحراك الثوري بالداخل.

خلال العام 2017 وحده، وجد الآلاف من العائلات السورية أنفسهم بلا دخل، بعد أن فقد أربابهم الوظائف التي كانت تعيلهم في مؤسسات إعلامية أو خدمية، أُنهي التمويل الخارجي لها، بلمحة بصر. ورغم أن مؤشرات تقلص التمويل الخارجي، كانت ملحوظة منذ فترة، إلا أن تسارع ذلك التقلص، بصورة دراماتيكية، مؤخراً، شكل فاجعة للكثيرين.

ويبقى السؤال هنا: ما السيناريوهات التي يؤسس لها تقلص التمويل الخارجي في المناطق المحررة، وعلى صعيد المؤسسات المناوئة لنظام الأسد؟

أولى تلك السيناريوهات بات جليّاً، وهو في طور الاكتمال، تمثّل في انخراط المزيد من المناطق المحررة في سياق اتفاقات المصالحة لصالح نظام الأسد والمظلتين الروسية والإيرانية. بمعنى آخر، فإن تخلي معسكر إقليمي ودولي عن حلفائه الداخليين، بصورة كلية، أو شبه كلية، ينعكس بطبيعة الحال في صالح المعسكر المضاد. تخلي الأمريكيين والأوروبيين والسعوديين وآخرين، عن معسكر المعارضة، يصب في صالح الروس والإيرانيين ونظام الأسد.

لكن، في تطورات هذا السيناريو، قد تكون هناك إشكالية غير منظورة حتى الآن، ستواجه تحديداً الليرة السورية، في وقت قريب. فتقلص تدفقات التمويل الخارجي إلى الداخل السوري، أو توقفها بصورة شبه كلية، تعني فقدان الليرة السورية للروافد الدولارية الكبيرة التي كانت سبباً في لجم تدهورها، خلال السنوات الماضية.

وللتوضيح أكثر، لطالما أكد الخبراء، خلال السنوات القليلة الماضية، أن ما منع الليرة السورية من الانهيار التام، هو عاملين رئيسيين، الأول، استمرارها كعملة رئيسية للتبادل التجاري في عموم سوريا، مما عزز الطلب عليها، ولجم تدهورها. أما العامل الثاني، فكان الدفق الدولاري الضخم الذي كان يدخل إلى المناطق المحررة، من عمليات التمويل الخارجي، والذي كان يتحول إلى ليرة سورية، نظراً للحاجة إلى العملة المحلية في عمليات التبادل التجاري. لذلك، كان الخبراء يتحدثون عن أن الدعم الخارجي التمويلي تحديداً للمعارضة، خدم الليرة السورية، وخدم اقتصاد النظام، بالمحصلة.

يراهن النظام على عملية معاكسة، تضمن استمرار الدفق الدولاري الخارجي، لكن هذه المرة من بوابة إعمار سوريا، والاستثمار فيها، بعد تحقيق حالة الاستقرار السياسي والأمني في عمومها. لكن ذلك الرهان ما يزال وقفاً على قبول الغرب الانخراط في عملية إعادة إعمار، يكون نظام الأسد أحد أضلاعها الرئيسية. وهو أمر ما يزال موضع شك، أكدته تصريحات المبعوث الروسي لسوريا، الذي طالب مؤخراً المجتمع الدولي، بالمساعدة في عملية إعمار سوريا. مما يعني أن الروس يخشون أن يترك الغرب والخليج الدمار في سوريا، كمسؤولية ملقاة على عاتق الروس والإيرانيين. وهي مسؤولية أكبر من قدرات الطرفين.

لكن، مقابل السيناريو السابق، قد يعزز تقلص التمويل الخارجي الداعم للمعارضة، سيناريو آخر، سبق أن راهن عليه معارضون، لكن بشكل خجول، وهو البحث عن مصادر تمويل ذاتية، تخرج الحراك المعارض في سوريا من بوتقة التأثير الخارجي، تماماً.

بدأت فصائل معارضة العمل على تأمين مصادر تمويل ذاتية، منذ وقت مبكر. لكن سعيها في سبيل ذلك أدى إلى انخراطها في صراعات جانبية، هدفها مصادر التمويل، وليس مواجهة نظام الأسد. لذا شهدنا طوال السنوات الماضية اقتتالاً بين الفصائل المختلفة للسيطرة على آبار النفط والغاز والمعابر الحدودية، والمعابر مع الدول المجاورة، والمعابر التي تربط المناطق المحررة بمناطق سيطرة النظام، ومناطق سيطرة القوى الكردية.. إلخ.

ورغم خطورة الذهاب بعيداً في هذا المسار، إلا أنه في نهاية المطاف، يؤسس لفصائل تملك قرارها بمعزل عن تأثير التمويل الخارجي. هذا السيناريو، إن ذهب حتى نهايته، سيضر تحديداً القوى المدنية والخدمية الحرة، وأيضاً بعض النشطاء الإعلاميين، الذين سيضطرون تحت وطأة غياب التمويل للارتباط بمشاريع الفصائل المسلحة، مما يزيد من وطأة العسكرة في الحراك الثوري، ويجعل الكلمة الأولى، لحملة البندقية، وليس للنشطاء المدنيين والإعلاميين.

قد تكون هناك سيناريوهات أخرى محتملة. أحدها، حصول تغير نوعي يؤدي إلى ارتداد في سياسات القوى الخارجية الفاعلة، مما يؤدي إلى عودة التمويل وبقوة. وقد يكون أحد السيناريوهات المحتملة، أن تكون الأحداث الخليجية الأخيرة، سبباً في تمدد التمويل من جانب أحد الأطراف، على حساب طرف آخر.

وأياً كانت السيناريوهات المحتملة، فإن تقلص التمويل الخارجي سيرسم آفاقاً جديدة. قد يصعب اليوم تحديد تداعياتها المحتملة على المشهد السوري.


ترك تعليق

التعليق