الملك "الإنكليزي" والرئيس "الممانع"


قبل أسبوع تقريباً، وعلى خلفية أخبار المظاهرات في الأردن، كان يمكن أن تقرأ الكثير من التعليقات التي تسم ملك الأردن، بـ "ابن الإنكليزية"، نسبةً إلى أمه البريطانية، في إشارة للتشكيك بولائه لأصوله العربية. كانت هذه التعليقات في معظمها تصدر عن متابعين ينتمون لجمهور دولٍ لطالما وُصفت بـ "الممانعة" أو المقاومة للهيمنة الغربية. في مقدمتهم، بعض السوريين.

ننوه بدايةً، إلى أن وجهة النظر هذه، لا تمثل السوريين عموماً، بطبيعة الحال. لكنها تعبّر عن لاوعي جمعي موروث، جراء التنشئة السياسية في مدارس البعث بسوريا، التي ربّت أجيالاً على أن العائلات الملكية العربية، وفي مقدمتها، العائلة الملكية الأردنية، تربطها صلات وثيقة بالغرب، ترقى إلى رتبة "العمالة" الكاملة له.

وخلال أزمته مع الأمريكيين، بعيد غزو العراق عام 2003، أعاد نظام بشار الأسد اللعب على هذا الوتر، بحيث أحيا في أذهان الناس، عبر ضخ إعلامي مؤدلج، حالة التقسيم الكلاسيكية للأنظمة العربية، التي راجت في عقود الخمسينات والستينات، وبقيت رائجة في سوريا خلال عقود السبعينات والثمانينات. حيث تنقسم الأنظمة العربية، وفق هذا التقسيم الآيدلوجي، إلى أنظمة عميلة ورجعية، تأتي الأسر الملكية في الأردن والخليج في مقدمتها. وبين أنظمة عربية ممانعة تقاوم الامبريالية والهيمنة الغربية. وكانت "مصر عبد الناصر"، تتربع على هرمها. لتصبح "سوريا الأسد"، هي التعبير عنها، لاحقاً. وهو تقسيم تبنته تيارات سياسية عربية عريضة، حتى وقت قريب. بل ربما، حتى اليوم. لتشمل معظم التيارات القومية واليسارية في العالم العربي.

لكن، أحداث الربيع العربي، وتحديداً، المأساة السورية المستمرة منذ العام 2011، وكذلك المأساة الليبية، واليمنية أيضاً، وقبلهما العراقية، كلها ثبّطت تلك القناعة المغروسة في أذهان أجيال من السوريين والعراقيين والليبيين واليمنيين، بأن أنظمتهم، على عللها، تقارع الغرب، وترفض هيمنته، في مقابل أنظمة عميلة تأتمر لصالح الغرب، بشكل مطلق.

ورغم أن تلك القناعة ثُبّطت بفعل ما ارتكبه معمر القذافي وعلي عبد الله صالح، وبشار الأسد، وقبلهما صدام حسين، من سقطات أودت ببلدانهم إلى قرار هاوية عميق، لم تخرج منها حتى الآن.. إلا أن بقايا تلك القناعة التي رُسّخت عبر عقود، كانت تظهر جليّةً، كلما كان هناك موقف تفترق فيه الشعوب عن الأنظمة في بلدان كالخليج والأردن. حيث تظهر التعليقات التي تصم تلك الأنظمة بالعمالة للغرب، بكثافة. ومن بينها، ذلك الوصم الذي يلاحق ملك الأردن، بوصفه يحمل دماءً إنكليزية في عروقه.

تلك القناعة تبدو من قبيل اللاوعي، أكثر منها قناعات مبنية على تفكير موضوعي. ولا يعني ما نقوله هنا، تبرئةً لأي نظام في العالم العربي، أو اتهاماً له. ففي نهاية المطاف، تختلف معظم أنظمة الحكم في العالم العربي، بالنِسبَة، لا بالنوعية، من حيث ابتعادها عن ركائز الحكم الرشيد. لكن ذلك الاختلاف بالنِسبَة، هو ما تبدى جليّاً في أحداث الربيع العربي. ففي حين جرّت الأنظمة الممانعة، وفي مقدمتها، النظام السوري، بلدانها إلى كوارث وطنية كبرى. تمكنت أنظمة ملكية، ارتبطت بصلات وطيدة وعلنية، مع الغرب، من تجنيب بلدانها تلك السقطات. وهذا ما تكرر، حتى الآن، في الأردن، مرة أخرى.

أبسط ما يمكن أن نلحظه في الفارق بين تعامل الأنظمة الملكية، في حالة الأردن والمغرب مثلاً، وبين الأنظمة الرئاسية، التي كانت تتبنى خطى يسارية وقومية ممانعة للهيمنة الغربية، على الأقل، كآيدلوجية معلنة، أن الأنظمة الملكية كانت أكثر رشداً في التعامل مع خضات الربيع العربي، التي لم تسلم منها، بلدانها. هي أنظمة، رغم ما تُوصم به من صلّة وطيدة بالغرب، كانت أقل استخداماً لأدوات القسر، الأمنية والعسكرية، مع حراك شعبي هدد استقرار حكمها، مقارنةً بأنظمة، من قبيل النظام السوري "الممانع".

بل لنذهب أبعد من ذلك. يمكن لمن عاش في بلدان تلك الأنظمة الملكية، من قبيل الأردن، مثلاً، أن يعرف أن البنية التحتية في الأردن، الفقير جداً بالموارد، أفضل بكثير من نظيرتها في سوريا، الغنية نسبياً، بالموارد. كما كان الأردن، حتى قبل الثورة، أكثر جذباً للاستثمار الخارجي، مقارنةً بسوريا.

ناهيك عن ذلك، فإن هوامش الحرية السياسية، والحراك المسموح به في الأردن، كانت حتى قبل ثورات الربيع العربي، أوسع بكثير مقارنةً بحالة سوريا، مثلاً. والمؤلم أكثر، أن النظام الملكي الأردني سمح بتطور مشهود له، للحركات النقابية الأردنية، مقارنةً بما قام به حافظ الأسد خلال السبعينات والثمانينات، من نشاط "إرهابي" قضى على القيمة النوعية التي كانت تتمتع بها الحركات النقابية السورية، حتى ذلك الوقت. بحيث أصبحت تلك الحركات، منذ أواسط الثمانينات، أشبه بفروع أمنية، وليس حراكاً نقابياً.

والأعمق من ذلك، أن سياسات النظام السوري، "الممانع"، لطالما قامت على معادلة تفقير الناس، كي يصبح البحث عن لقمة العيش همهم الرئيسي، بصورة تشغلهم عن أية هموم أخرى. بالمقابل، سعى النظام الأردني لرفع مستوى معيشة الأردنيين، قدر المستطاع. وتقبّل حراكهم الرافض لتدهور هذا المستوى، ولم يتعامل معه بوصفه جُرماً، يستحق العقاب والتأديب.

أخيراً، نكرر أن كل الأنظمة العربية، بعيدة عن الأنموذج الأمثل للحكم الرشيد. لكن بُعدها عنه، يختلف بالنِسبَة. وبالمقارنة بين الملك "الإنكليزي"، حسبما يروق للبعض وصفه، وبين "الرئيس الممانع" في سوريا.. يبدو أن الأول أقرب إلى الحكم الرشيد بمسافة هائلة، مقارنة بالثاني. وإن سألت كثيراً من السوريين، الذين ذاقوا وبال "الممانعة"، لقالوا لك، لا نمانع أن يحكمنا ملك "إنكليزي"، علّ الدماء غير العربية التي تجري في عروقه، تجعله أرقى في نظرته، تجاه شعبه.

ترك تعليق

التعليق