أثرياء السوريين في الخارج.. "لو"


نطمئنكم أننا لن نقع في المذموم، باعتماد "لو" في التفكير بما مضى والتحسر عليه. ذلك أن "لو" تفتح عمل الشيطان، حسب نصٍ لحديث نبوي صحيح. لكن، إن استخدمنا "لو" في التفكير بالمستقبل، فإن الأمر سيصبح معكوساً.

لنقفل أبواب التفكير بالماضي، تماماً، كي لا نقع في حبائل "لو" الماكرة. دعنا نعكس فِعلها، لتكون "مستقبلية". "لو"، مثلاً، فعّل أثرياء السوريين في الخارج، قدراتهم، عبر شبكات تعاون، تتجاوز حدود الدول التي يقطنونها، بحيث يشكلون، بالتدريج، ومع الزمن، لوبيات أعمال مؤثرة في سياسات الدول التي ينشطون فيها.. كيف يمكن أن ينعكس ذلك، عليهم أولاً، وعلى أقرانهم من السوريين في الخارج والداخل، ثانياً؟

لنترك الإجابة على السؤال السابق، لأنها واضحة للقارئ. ولنطرح سؤالاً آخر. على ماذا يراهن نظام الأسد كي يحقق قاعدة صلبة لإعادة إعمار سوريا؟.. لقد أكد رأس النظام منذ فترة وجيزة، بأن إعادة الإعمار، أولوية. وهي كذلك، دون شك، لأن البديل عن ذلك سيؤهل سوريا لتكون دولة فاشلة، على غرار دول كالصومال وأفغانستان، وهذا ما سيضعف القيمة الوظيفية لنظام الأسد، بوصفه الضابط للساحة السورية، بصورة تضمن أمن دول الجوار، وفي المقدمة منها إسرائيل.

المتابعة اليومية لما تركز عليه وسائل إعلام النظام، في الآونة الأخيرة، يكشف بوضوح، على ماذا يراهن هذا النظام في سيناريوهات إعادة الإعمار. إحدى أبرز الأوراق التي يراهن عليها، هي رأس المال السوري المُهجّر في دول الجوار، ودول المُغترب. وقد نشر "اقتصاد" أكثر من تقرير يسلط الضوء على حالة "المنافسة" بين نظام الأسد وبين أنظمة الحكم في لبنان ومصر، على جذب رأس المال السوري. فالنظام يراهن على عودة رأس المال السوري، الذي هاجر بفعل تطورات حربه على السوريين.

 بما يملكه هؤلاء الأثرياء، من مقدرات مالية، وخبرات استثمارية، وعلاقات تجارية، تمثّل عودتهم باباً واسعاً لطمأنة المستثمرين حول العالم، حيال مستقبل الاستثمار وإعادة الإعمار في سوريا.

ببساطة، يراهن نظام الأسد على استعادة علاقاته الطيبة التي أسس لها، مع رأس المال السوري، المُهاجر، قبل الثورة. حين دخلت أبرز رموز هذا المال، في شراكات مع نظام الأسد، قبل أن تؤدي تطورات الثورة إلى فض هذه الشراكات، أو تخفيضها إلى حدودها الدنيا، في أحسن الأحوال. ناهيك عن هجرة رموز كبيرة من المتمولين السوريين، بأموالهم، إلى دول الجوار.

وهكذا تتاح من جديد، فرصة ثمينة أمام رأس المال السوري، وأقطابه، كي يلعبوا دوراً يخدم مصالحهم، بدايةً، ويسهم ربما في التأسيس لقوة نخبوية وطنية، قادرة على لعب دور في ترتيب شكل سوريا الجديد.

وفيما تعتزم قوى دولية وإقليمية إعادة تأهيل نظام الأسد، تصبح الفرصة سانحة، كي تكون مشاركة رأس المال السوري، في إعادة التأهيل تلك، مشروطة، بصورة تضمن مصالح مشتركة لكل السوريين، في مقدمتهم، الأثرياء أنفسهم.

فهؤلاء الأثرياء، ورغم أن الكثير منهم، كان شريكاً لنظام الأسد، وحتى وقت قريب، إلا أن معظمهم، في الوقت نفسه، دفع أثماناً غالية، للفوضى الأمنية وانهيار الاستقرار، الذي تسبب به نظام الأسد، في معالجته للحراك الثوري. مليارات الدولارات، هي خسائر القطاع الخاص السوري، خرجت من جيوب رأس المال السوري، بسبب أداء نظام الأسد، وبعده عن منظومات الحكم الرشيد.

اليوم، تتغول الفردية في أداء رأس المال السوري، كحال معظم السوريين. فينحو بعض الأثرياء السوريين للارتماء في أحضان النظام، والتحول إلى ورقة بيده. فيما يغرد أثرياء آخرون بعيداً عن سوريا، مفضلين بلدان المهجر، بوصفها أكثر ضمانةً واستقراراً لهم. ويبقى فريق ثالث هائماً على وجهه، محتاراً، بين العودة إلى سوريا، التي يقول النظام إنها اقتربت من أن تعود كما كانت، وبين عدم الوقوع في حبائل وعود هذا النظام، ثانيةً، بعد التجربة السابقة.

وهنا، تصبح "لو"، المستقبلية، ذات معنى. فـ "لو" تمكن جزء كبير من هؤلاء الأثرياء- الذين لا يرتبطون بنظام الأسد، عضوياً- سواء كانوا من الرماديين، أو من المؤيدين للثورة.. "لو" تمكن هؤلاء من التشبيك فيما بينهم، ليكونوا قوة مالية واستثمارية عابرة للحدود، وبما يملكونه من علاقات مع نخب ثرية وسلطوية، في بلدان عدة، يمكن لهم تشكيل قوة ضغط، تستطيع أن تساهم في إعادة ترتيب سوريا، بدلاً من أن تبقى عملية الترتيب هذه، نهباً لقوى خارجية.

دون شك، يفكر الكثير من رجال الأعمال والأثرياء السوريين، الذين يوسوس لهم زبانية النظام، بالعودة إلى أحضانه، للاستثمار في سوريا، العائدة للحياة، حسبما يُشاع. ودون شك، يسمع هؤلاء الأثرياء أصوات منطق صارخة في عقولهم، تقول لهم، "أستعيدون الكرة؟"، "ألم يتسبب لكم هذا النظام بخسائر مالية فادحة بسبب سياساته غير الرشيدة؟".

باختصار، للأثرياء السوريين، مصلحة متقدمة في أن يساهموا في تشكيل سوريا الجديدة. سوريا أفضل لهم، ولجميع السوريين، يحكمها القانون، الذي يتيح للمستثمر العمل بأريحية، بعيداً عن بلطجة السلطات. سوريا تحكمها حكومة رشيدة، تتيح للاستثمار فرصاً أفضل بكثير من المافيوية التي تُحكم سلطتها على البلاد، وتتعامل مع الأثرياء بمنطق الأتباع حصراً. في "سوريا الأسد"، يمكن لرجل الأعمال أن يكون واجهة أو شريك لرجل متنفذ في السلطة. وأن يعيش تحت رحمة هذا المتنفذ. أما في سوريا جديدة تخضع لحكومة رشيدة، يصبح الاستثمار متاحاً بأريحية. ويكون للمستثمر السوري الأولوية، والهامش الأكبر من الأرباح.

 اليوم، نظام الأسد بحاجة لرأس المال السوري. ويستطيع رأس المال هذا أن يشكل قوة ضغط كبيرة، تقنع قوى إقليمية، وحتى ربما دولية، في أن عملية إعادة تأهيل هذا النظام، يجب أن تكون مقنعة، بصورة تسمح للاستقرار بأن يتحقق، بما يضمن أمن دول الجوار. وإن كان رأس المال السوري، لم يقتنع بإعادة التأهيل الشكلية للنظام، فالأَولى، بأن رأس المال الأجنبي، لن يخاطر في الاستثمار داخل دولة، يخشى أبناؤها من الاستثمار فيها.

تحقيق ذلك متاح، شريطة التنظيم والتعاون، والتغلب على النزعة الفردية الطاغية على أداء غالبية السوريين، والنظر إلى المزايا بعيدة المدى، بدلاً من الاكتفاء بالتقاط فتات الفرص قصيرة الأمد، التي يُلقي بها نظام الأسد للأثرياء السوريين في الخارج، عبر إعلامه، وزبانيته، وبصورة شبه يومية.

ترك تعليق

التعليق