سيف الوقت الذي يهدد رأس النظام


يرفض مختصون أن يصنفونها على أنها امتدادات لثورات وانتفاضات الربيع العربي عام 2011. لكنها، دون شك، من نتائج وتداعيات ذلك الربيع. فتلك الاحتجاجات المطلبية التي عادت لتتفجر في المغرب والأردن وإيران، وأخيراً العراق، هي تأكيد على أن الثورات المضادة التي قادتها دول وأنظمة، لإخماد الربيع العربي، لم تُطفِئ تماماً، جذوة التمرد في الشارع العربي.

لكن، هذه المرة، تختلف الدوافع. ففيما كانت عام 2011، تتعلق بـ "الحرية والكرامة" والنوازع نحو الديمقراطية، تنطلق الاحتجاجات الأخيرة من دوافع مطلبية. لذلك، يقلل مراقبون من شأنها، ويستبعد الكثيرون أن تتحول إلى أزمات خطيرة تهدد استقرار الأنظمة، التي استهدفتها.

في نهاية العام السابق، وبداية العام الجاري، كادت إيران أن تعيش خضّة نوعية بحجم تلك التي عاشتها عام 2009. بعيد ذلك بأشهر، عاشت مناطق من المغرب خضّات أقل وطأة. أما الأردن، فاهتز نظام حكمه بعنف، قبل أن يتمكن من تطويق الاحتجاجات. لينتقل المشهد إلى إيران مجدداً، وهذه المرة، تمظهرت الدوافع المطلبية بصورة أكبر، وعززها الجفاف. قبل أن تنتقل العدوى إلى العراق، الذي اشتعل فيه الغضب داخل الحاضنة الشعبية للنظام الحاكم نفسه، في الجنوب.

في سوريا، يعم الهدوء حتى الآن في مناطق سيطرة النظام. لكن المؤشرات كلها توحي بأن نظام الأسد يسابق الوقت كي يتجاوز منعطفاً خطيراً، يتعلق باحتياطي البنك المركزي، الذي لا يبدو أنه بخير. هذا ما تؤكده مساعي النظام المكثفة لجذب الأموال، من أي مكان، ومن كل جهة. حتى لو كان ذلك يعني إصدار شهادات إيداع، يمكن لحامليها أن يكونوا أجانب، حسبما أقرّت وسائل إعلام موالية.

بطبيعة الحال، هي ليست سابقة، أن يفلس المركزي، أو يكاد. يُعتقد أن بنك سورية المركزي أفلس تقريباً في نهاية الثمانينات، بعد عقدٍ من الاستنزاف، لتمويل آلة الحرب ضد فئات سورية معارضة، في حملةٍ أمنية وعسكرية، تطلبت من رأس النظام، حينها، فتح الباب على الغارب، لسرقات رموز النظام، وفي مقدمتهم، آل الأسد أنفسهم. ويُعتقد حينها، أن الاقتصاد السوري كان على شفير الانهيار، قبل أن يتم اتخاذ خطوات منهجية، لإنقاذه، وضبط المشهد.

اليوم، يتكرر الأمر، لكن مع سوريا مدمرة، بصورة غير مسبوقة.. ومع جمهور من الموالين، استنزف شبابه، بصورة نوعية، وهو يريد المقابل، بحدوده الدنيا.. ومساحات واسعة أُعيدت للنظام، وهو عاجز عن ترميم الحد الأدنى من بنيتها التحتية، التي كان قد دمّرها بنفسه.

ولا يبدو حتى اللحظة، أن ابتزاز الوصي الروسي للأوروبيين، بورقة اللاجئين، قد نفعت في إقناعهم بالانخراط في إعادة إعمار "سوريا الأسد". فيما تتمترس الولايات المتحدة الأمريكية في أغنى مناطق سوريا، وتحصل على تمويل إقليمي ودولي سخيّ لضمان بقاء قواتها، مع تأهيل البنية التحتية للمناطق الخاضعة لسيطرتها، وذلك في مؤشر على فشل المفاوضات بين الروس والأمريكيين، في الوصول إلى حزمة متكاملة من التفاهمات بخصوص مستقبل سوريا، حتى الآن.

والآن، دعنا نتصور السيناريو الآتي، وهو وارد بشدة: أن تؤول كل محاولات الروس في إقناع الغرب بتمويل إعادة إعمار سوريا، إلى الفشل.. ومن ثم، تؤول كل محاولات النظام لاجتذاب كمٍ كبيرٍ من رؤوس الأموال، إلى الفشل أيضاً.. ماذا يعني ذلك؟.. ببساطة، إنها كارثة مالية بكل المعايير. ومع حجم الضغوط الاقتصادية الهائلة، التي ترزح تحتها إيران، بالتحديد، لا يبدو أن الأخيرة مستعدة لتمويل بقاء النظام، حياً، من الناحية المالية. أما روسيا، فلم يسبق أن مولت، نظام الأسد، دون مقابل. ولا يبدو أن لدى هذا النظام، في الوقت الراهن، بقيةً من "مقابل" يمكن له دفعه.

لكن ماذا يعني إفلاس المركزي من العملات الأجنبية؟.. يعني أن المركزي سيصبح عاجزاً عن تمويل المستوردات، وكذلك سيصبح عاجزاً عن دعم الليرة في أي خضّة محتملة بأسواق العملة. العجز عن تمويل المستوردات، يعني ارتفاعاً كبيراً في الأسعار، لأن المركزي يمول المستوردين بدولار، سعره أقل من السوق، وإن بصورة طفيفة، في الوقت الراهن. لكن، إن تعرضت الليرة لأي خضّة، نتيجة أسباب أمنية، وما أكثرها في المشهد السوري الراهن، يعني ذلك أن الفارق بين سعر "دولار تمويل المستوردات"، وسعر صرف الدولار في السوق السوداء، سيرتفع. وهذا سيؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاستيراد، والمزيد من ارتفاع الأسعار. ناهيك عن أن العجز في الدفاع عن الليرة، في خضّات السوق، قد يعني الذهاب نحو تعويمها، وهي طامة على أصحاب الدخول المتدنية، وهم الغالبية من السوريين.

لذلك، يسابق النظام الوقت، كي يحصل على تمويل من أي جهة كانت. وفي هذه الأثناء، لا بد أن مسؤولي النظام، يفكرون بجدية في معاني احتجاجات الجنوب العراقي، منذ بضعة أسابيع. فحاضنة النظام الرئيسية، من الشيعة في العراق، هي التي انتفضت، وكادت الانتفاضة أن تتفاقم، لو لم يتم تطويقها سريعاً. دون شك، ذلك يطرح مخاوف على النظام حيال تمرد في أوساط أكثر البيئات قرباً منه. لكن الهاجس الأخطر، ربما، يتعلق بأن تتحول الدولة السورية إلى حالة من الفشل المالي، الذي يجعل من النظام ورموزه عبئاً على حلفائهم، يصعب التعامل معه. وهنا يصبح الحافز لدى الحلفاء، أكبر، لتقديم تنازل نوعي في تركيبة الحكم بدمشق، لصالح الغرب، مقابل انخراط الأخير في تمويل إعادة إعمار سوريا. 

لذلك، يسابق النظام الوقت. وقد ينجح في تجاوز هذا المنعطف الخطير. وقد يفشل. لكن الوقت هذه المرة، لن يكون في صالح النظام، على خلاف المُعتاد. وسيفه قد يهدد رأس النظام، شخصياً.


ترك تعليق

التعليق