من إدلب.. إلى قمة الهرم بواشنطن


لو حاولنا تحديد موقع إدلب من حيث الموارد والإمكانيات العسكرية والاقتصادية، في هرم مُتخيل لقوى العالم، فإنها دون شك، قد لا تكون بعيدة كثيراً عن قاع ذلك الهرم. فيما تتربع واشنطن على القمة. لكن، كالعادة في مناطق النزاعات، ترتفع أهمية الجغرافيا، لتبدو وكأنها متفوقة على الاقتصاد. فيما الأخير، يوجّه دفة الصراع، من وراء الستار.

تبدو الولايات المتحدة الأمريكية، في نظر المراقب المُستجد، وكأنها استيقظت فجأة في عهد دونالد ترامب، على حقيقة تهديد مكانتها الدولية، ليس على الصعيد السياسي فقط، وهو الأمر الذي لا تُخصص النخبة الأمريكية اهتماماً كبيراً له، بل الأخطر، على الصعيد الاقتصادي، الذي يهدد روافع القوة الكلية، بصورة حقيقية. فالصين، ومن بعدها، قوى دولية وإقليمية صاعدة، بسرعة، تقترب من تهديد المكانة الاقتصادية الأولى للولايات المتحدة الأمريكية. ورغم أن الفارق بالأرقام، ما يزال كبيراً جداً، بين واشنطن وبين المقتربين من مكانتها، إلا أن سرعة تقليص هذا الفارق، هو ما يقلق النخبة في واشنطن.

لكن، إن عدنا إلى الوراء قليلاً، حتى مطلع الألفية الحالية، سنكتشف أن النخبة الأمريكية كانت تدرك أن تهديد مكانتها الدولية، أمر يقترب بتسارع كبير. وكان منظّرون روس، في الأعوام الأولى من هذه الألفية، يحذّرون من أن واشنطن مقبلة على جملة حروب، بهدف إعادة تحريك اقتصادها، ولجم القوى الصاعدة المنافسة لها. وكان أولئك المنظّرون مُحقين، إذ شنت إدارة جورج بوش الابن، حربين كبيرتين، في أفغانستان والعراق، لأسباب ظاهرها أمني، وباطنها، جيوسترتيجي – اقتصادي. إلا أن القوة الخشنة للولايات المتحدة الأمريكية تلقت صفعات أنذرت بـ "فيتنام جديدة"، دفعت سريعاً، إلى تغيير في المزاج العام، بالولايات المتحدة، نحو ضبط النشاطات العسكرية الخارجية، وحصرها، بالضروريات القصوى. هذا المزاج لا يسود اليوم، في أوساط الرأي العام الشعبي الأمريكي فقط، بل يسود أيضاً في أوساط النخبة وصناع القرار.

 ولاحقاً، فإن انكماش القوة الخشنة الأمريكية، الذي وصل ذروته في عهد إدارة باراك أوباما، فاقم من التهديد الذي تمثله القوى الدولية والإقليمية الصاعدة، على مكانة الولايات المتحدة، كقوة اقتصادية أولى. فكان عهد دونالد ترامب، تحت عنوان، الدفاع عن مكانة أمريكا، لكن بأدوات القوة الناعمة. وبناء على ذلك، شنّت إدارة ترامب حروباً تجارية على مختلف الخصوم والحلفاء، بهدف لجم صعودهم الاقتصادي المتسارع، ودفعهم إلى تقديم تنازلات على صعيد التجارة العالمية، لصالح الأمريكيين. وقد يكون الهدف الرئيس لأمريكا، في هذه الحروب، هي الصين. لكن ذلك لا ينفي التصويب الأمريكي على دول صاعدة، تحاول التفلت من الهيمنة الأمريكية، كتركيا على صعيد الحلفاء السابقين. وعلى صعيد الخصوم، إيران. دون أن ننسى الصداع الروسي، الذي شكّل بؤرة اهتمام النخب الأمريكية منذ منتصف العقد السابق.

وبفائض من شعورها بالتفوق، تحصر واشنطن أدواتها، بصورة رئيسية، بتلك المحتسبة على القوة الناعمة، وفي مقدمتها الاقتصاد، أثناء صراعها مع القوى المنافسة. وهنا يأتي دور الصداع الروسي المتفاقم. وتأتي الحبكة في إدلب. فروسيا استدعت الأمريكيين إلى "مكاسرة" خشنة، في سوريا. ورغم الفارق الهائل على صعيد القوة العسكرية، بين الروس والأمريكيين، إلا أن موسكو تعلم جيداً أن المزاج الأمريكي لا يحبذ انخراطاً عسكرياً أكبر في جغرافيا ذات أهمية هامشية على صعيد الأولويات الأمريكية، فيما تزج موسكو بأحدث المعدات في ترسانتها العسكرية، في المغامرة السورية، الأمر الذي يتطلب من الأمريكيين، إن أرادوا الانجرار إلى "المكاسرة" مع روسيا، أن يخصصوا المزيد من الموارد العسكرية، وأن يتأقلموا مع انخراط عسكري طويل الأمد، داخل الأراضي السورية. وهو ما يخالف المزاج العام السائد في أوساط النخبة والشارع بأمريكا.

لكن، لماذا إدلب؟، فالأمريكيون تخلوا بسهولة عن درعا، منذ أسابيع قليلة فقط؟.. الجواب ببساطة، أن إدلب هي المعقل الأخير، لما يمكن أن يكون صداعاً ميدانياً للروس وحليفيهما الأسدي – الإيراني. وربما للأتراك أيضاً. ففي درعا، بحثت واشنطن عن وسيلة لتجنيب إسرائيل، صراعاً ميدانياً خطيراً، قرب حدودها، قد يهدد أمنها. وكان الحل، في اتفاق مع الروس، لتسليم درعا، مقابل ضمانات بأمن إسرائيل. أما في إدلب، فإن صراعاً ميدانياً، مُكثّفاً، قد يخدم استراتيجية عزيزة على قلوب النخبة الأمريكية، وهي استنزاف الخصوم، بحروب "الجيل الرابع" من الجماعات الجهادية. تلك ذاتها، الاستراتيجية التي استخدمها خصوم الأمريكيين في العراق وأفغانستان، ودفعوا بهيبتها العسكرية إلى الوراء، مرات عديدة.

وبخلاف الفصائل الجهادية في إدلب، تحديداً، لا يبدو أن واشنطن تملك أدوات قادرة على تحقيق استنزاف من صنف "حروب الجيل الرابع" للروس أو باقي المتورطين الميدانيين في سوريا. فالحليف المباشر للأمريكيين، على الساحة المحلية السورية، "الأكراد"، لا يقاتلون إلا بغطاء جوي أمريكي مباشر. بخلاف فصائل الجهاديين في إدلب، الذين لم يكن للأمريكيين أي دور مباشر، في دعمهم. بل يكفي إتاحة الفرصة لتكتلهم في بقعة ما، وتركهم كي ينتظموا بما يخدم حرب عصابات تتعب أي طرف إقليمي أو دولي، ناشط في نفس المنطقة.

لم يقدم الأمريكيون أي دعمٍ مباشر، لجماعات من قبيل "النُصرة"، بل صنفوهم كـ "إرهابيين". لكن الأمريكيين، في الوقت نفسه، لم يقوموا بأي إجراءات جديّة للقضاء على "النُصرة"، بل على العكس تماماً، كانوا ربما، يشاهدون بارتياح كبير، تمدد هذه القوة الجهادية في إدلب، ليقوموا باستهداف موضعي، من حين لآخر، عبر ضربات لتصفية القيادات ذات التوجه الجهادي العالمي، في صفوفها، لصالح القيادات ذات التوجه الجهادي المحلي. فالصنف الأولى من القيادات، كان يمكن أن يستخدم إدلب كمعقل لاستهداف المصالح الأمريكية، حسبما يخشى الأمريكيون. لذلك، قامت أمريكا باستهدافات عديدة، بغارات دقيقة، لتصفية قيادات عربية داخل "النُصرة"، خلال السنوات السابقة. لكنها، لم تستهدف تصفية "النُصرة"، فعلياً، بخلاف ما قامت به ضد تنظيم "الدولة الإسلامية".

فـ "النُصرة"، وفصائل جهادية أخرى شبيهة بها، قد تكون المسمار الأخير، الذي يمكن دقّه في هيكل الهيمنة الروسية – الإيرانية على معظم الأراضي السورية. بكلمات أخرى، واشنطن تريد أن تبقى سوريا ساحة استنزاف لخصومها، وحتى بعض حلفائها، كالأتراك. تريد لهذه الساحة أن تكون مستنقعاً يغرق فيه جميع المتورطين، باستثنائها.

وفيما تسارع واشنطن الخطى، في حرب تجارية ضد روسيا وتركيا وإيران، وكذلك الصين. تسارع هذه القوى، في المقابل، للرد بأدوات مختلفة. ففيما تراهن الصين على قوتها الناعمة، الاقتصادية أيضاً. تراهن روسيا، على قوتها الخشنة، التي يمكن أن تثمر بنفع اقتصادي ثمين. فالغزو العسكري الروسي، الذي نُفّذ في سوريا، أضاء على قدرات روسيا، لا العسكرية فقط، بل الاقتصادية والاستثمارية أيضاً. ولم تعد روسيا قريبة من كل طرق التجارة العالمية، وخطوط نقل النفط الحالية، والمزمعة، فقط. بل أيضاً، باتت ملجأً لعدد من القوى الإقليمية الراغبة في الاستثمار معها، لتأمين نفسها. وبعض تلك القوى من حلفاء أمريكا نفسها.

لذلك، يبدو أن إدلب آخر معقل، يمكن أن تلجم فيه واشنطن الهيمنة الروسية على سوريا، وتحولها إلى تورط ميداني للروس، يودي بكل نجاحاتهم السابقة في هذه الساحة. وعلى هذا الأساس، لا ترغب واشنطن في أن تؤول إدلب إلى الهيمنة الأسدية – الإيرانية، بغطاء روسي. وربما أيضاً، لا تحبذ أن تؤول إلى هيمنة تركية، بتنسيق مع الروس. تريد أمريكا أن تتحول إدلب، وفصائلها الجهادية الفاعلة، إلى صداع مستمر، للفاعلين الثلاثة، روسيا وإيران وتركيا.

ولأن واشنطن تعلم أن حرب النظام، وحليفيه الإيراني والروسي، ستكون صعبة في المناطق الوعرة، بين إدلب والساحل السوري، لذلك، توقعت، وكذلك دوائر غربية عديدة، أن يلجأ النظام، كالعادة، وبغطاء روسي، إلى استخدام السلاح الكيماوي، كي يحقق صدمة للمقاتلين، والحواضن الشعبية التي تضمهم، تجعل كلفة المعركة، ومداها الزمني، أقل.

وبما أن النظام استخدم الكيماوي عشرات المرات، في أمكنة مختلفة، على امتداد الساحة السورية، وكانت ردود الفعل الأمريكية، باهتة.. فإن التحذير الأمريكي – الغربي، الحالي، من رد فعل مناسب، على استخدام جديد للكيماوي في سوريا، يؤكد أن واشنطن لا تحبذ تغيير وضع إدلب الحالي، كمعقل لقوى "حروب الجيل الرابع"، التي يمكن تفعيلها في أي وقت، لتكون صداعاً للمتورطين على التراب السوري.

روسيا، بطبيعة الحال، التقطت الرسالة، وصعّدت من حجم القوة الخشنة المستثمرة في معركة إدلب المرتقبة، وكأنها تقول للأمريكيين، تعالوا للـ "المكاسرة". وهنا، يصبح الأمريكيون أمام خيارين، إما أن يحافظوا على سياسة الحد من التورط العسكري، إلى حدوده الدنيا، وهي السياسة التي تلقى شعبية في أوساط الشارع والنخب في الولايات المتحدة. أو أن يذهبوا باتجاه حشد موارد وقدرات عسكرية، كبيرة، للجم الروس، عبر الزج بها على التراب السوري، واستهداف نظام الأسد، وربما الإيرانيين، أيضاً، بصورة مُوجعة هذه المرة.

كثير من المراقبين، لا يتوقعون أن تأتي ردود الأمريكيين حيال هجمة شرسة للروس وحلفائهم، على إدلب، إلا باهتة، ودون قيمة نوعية، كما في المرات السابقة. لكن في الوقت نفسه، في إدلب، ستكون الفرصة الأخيرة للأمريكيين، كي يحافظوا على استراتيجية الاستنزاف للمتورطين الروس والإيرانيين، وحتى الأتراك، في سوريا. وإن، لم تستغل واشنطن، تلك الفرصة، فهذا يعني، أن سوريا بأكملها، تقريباً، آلت للهيمنة الروسية، ذلك أن منطقة شرق الفرات، الغنية بالنفط، تتطلب التزاماً عسكريا ًأمريكياً، طويل الأمد، لتغطية "الحليف الكردي المحلي"، الذي لا يقاتل، إلا بغطاء أمريكي مباشر. وبغياب هذا الغطاء، يصبح هذا "الحليف المحلي"، مستعداً لكل الخيارات، بما فيها، الانضواء تحت عباءة النظام، وحليفيه الروسي – الإيراني. وفكرة انخراط طويل الأمد، مرعبة للنخبة الأمريكية. فيما إدلب، تبقى المعقل الأفضل، لتحقيق الهدف الأمريكي في استنزاف الآخرين، بكلفة أقل، ودون كثير من الانخراط المباشر. لكن يبقى ذلك وقفاً على قرار الأمريكيين الأخير بخصوص إدلب. هل تتحرك واشنطن هذه المرة؟، أم ككل مرة، تنكفئ بدفعٍ من "فوبيا التورط الخارجي"؟

ننوه في الختام، أن التدخل الأمريكي، لا يعني بالضرورة، نفعاً لعموم السوريين وفي مقدمتهم، الحاضنة الشعبية للثورة والمعارضة. فمنظور الأمريكيين لسوريا، أن تكون ساحة للاستنزاف، الذي يشكل السوريون أبرز ضحاياه. ولا يعني ذلك أيضاً، أن الاحتمال الآخر، وهو أن تؤول آخر المعاقل المناوئة للنظام، في إدلب، للسيطرة الأسدية – الإيرانية – الروسية، هو الخيار الذي يخدم الشرائح الشعبية المعارضة المكتظة في إدلب. فكلا الاحتمالين، سيئان، للسوريين عموماً. وقد يكون أفضل الاحتمالات المتاحة اليوم، أن تنجح المساعي التركية في إقناع الروس بضم إدلب إلى الغطاء التركي. وهو احتمال تنخفض نسبة رجحانه، بمرور الوقت. ونجاحه يتوقف على الموقف الأخير للجهاديين في إدلب. وفي مقدمتهم، "هيئة تحرير الشام". فالأخيرة، إن قبلت بصيغة تركية لحلحلة الأزمة، على حسابها، تكون قد أنقذت سوريي إدلب، من الاحتمالين الآخرين.

أما الأمريكيون، فهم في مفترق طرق، من الصعب الجزم، إلى أين سينعطفون فيه؟.. فاللحظة التاريخية تجعل إدلب، القريبة من قاع هرم العالم، ذات أثرٍ شبه مباشرٍ، على مكانة أعلى الهرم، في واشنطن.

ترك تعليق

التعليق